
بين أنقاض الحرب ومخلفات الدمار تتبلور اليوم مبادرات لا تكتفي بإعادة بناء الجدران بل تعيد بناء الاقتصاد والهوية الثقافية معاً، في خطوة تعد من أكبر المشاريع الاستثمارية النوعية في القطاع الإبداعي السوري،
أعلنت جهات رسمية عن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية بين (الدولة، شركة إنتاج دولية وعدد من المستثمرين السوريين والعرب)، لإطلاق أول مدينة فنية وإنتاجية متكاملة على أطراف ريف دمشق، وبحسب مخططات المشروع فإن المدينة ستُبنى على مساحة تقارب 120 هكتاراً، بتكلفة استثمارية أولية تصل إلى 150 مليون دولار.
المدينة الجديدة ستضم وحدات إنتاج واستوديوهات تصوير متقدمة ومراكز تدريب وتأهيل ومرافق استثمارية ولوجستية مصممة لتسهيل تدفق العمليات بين الأطراف المنتجة والجهات الممولة، بما يسهم في تحويل صناعة الإعلام من نشاط تقليدي إلى قطاع اقتصادي تنافسي يعزز الناتج المحلي ويوفر فرص عمل مستدامة. وستعمل المدينة كمركز اقتصادي قائم على الاقتصاد الإبداعي يستقطب رؤوس الأموال ويوفر بيئة أعمال متخصصة، عبر بنية تحتية حديثة وإدارة تشغيلية مرنة تتيح للشركات الناشئة والمواهب الإبداعية تطوير مشاريعهم وتوسيع نطاق إنتاجهم إلى أسواق جديدة.
يهدف هذا المشروع إلى تأسيس نموذج أعمال متكامل يجمع بين الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، التدريب المهني والأكاديمي، وصناعة المحتوى الرقمي بأحدث التقنيات؛ وستضم:
- استوديوهات تصوير مغلقة ومفتوحة بمواصفات عالمية.
- معاهد لتدريب الممثلين والفنيين وكتّاب السيناريو.
- مراكز مونتاج وصوت وخدمات رقمية ثلاثية الأبعاد.
- حي ثقافي وفني يستضيف مهرجانات ومعارض وأمسيات.
- بنية تحتية سكنية وتجارية لخدمة العاملين والزوار.
الرؤية الاستراتيجية: كيف يؤسس المشروع لبنية اقتصادية إبداعية جديدة؟
يقوم هذا المشروع على رؤية استراتيجية متعددة المستويات تسعى إلى إعادة تعريف دور الإعلام والصناعات الإبداعية كرافعة اقتصادية وتنموية في سوريا ما بعد الحرب، وبخلاف المشاريع التقليدية التي تركز على البناء الفيزيائي أو الخدمات التجارية، تطرح مدينة الفن نموذجاً اقتصادياً هجيناً يجمع بين الاستثمار الثقافي والاحتضان التكنولوجي والصناعات الترفيهية عالية القيمة.
تتجسد هذه الرؤية في خمسة محاور استراتيجية مترابطة:
تحفيز نمو الاقتصاد الإبداعي المحلي والإقليمي
المشروع لا يكتفي بإنشاء بنية تحتية للإنتاج الفني، بل يطمح إلى تحويل الإبداع إلى نشاط اقتصادي منظم يتيح تأسيس شركات ناشئة وتطوير خدمات إعلامية قابلة للتصدير، وبناء منظومة عمل ترتبط بالأسواق الإقليمية وأسواق الشتات السوري والعربي.
توطين الخبرة والمعرفة التقنية عالية المستوى
من خلال شراكات استراتيجية مع شركات إنتاج دولية وخبراء تقنيين، يستهدف المشروع نقل المعايير الحديثة في إدارة المحتوى والعمليات الإنتاجية والابتكار الإعلامي، بحيث تصبح المعرفة جزءً من البيئة التشغيلية اليومية.
إعادة صياغة الهوية الثقافية كقيمة اقتصادية مستدامة
المشروع يرى أن الهوية الوطنية ليست مجرد سردية رمزية، بل هي أحد الأصول التي يمكن تحويلها إلى محتوى رقمي وفني يعزز الوعي الثقافي ويولد عوائد اقتصادية ويزيد من تأثير القوة الناعمة السورية في الخارج.
تنمية الموارد البشرية والقدرات الإبداعية الشابة
عبر برامج تدريب وتأهيل ممنهجة، تستهدف الإدارة بناء جيل جديد من المهارات المهنية والتقنية في مجالات الإنتاج، والتصميم الرقمي، وإدارة المشاريع الإبداعية، بما يخلق فرص عمل ذات قيمة مضافة ويقلل الاعتماد على العمالة المستوردة.
تأسيس نموذج تشغيلي مرن لجذب رؤوس الأموال
يركز المشروع على تقديم حزمة متكاملة من الخدمات اللوجستية والدعم التقني وحلول التمويل للمستثمرين المحليين والعرب، ما يمنحه قدرة تنافسية ويجعله وجهة موثوقة لرؤوس الأموال الباحثة عن الاستثمار طويل الأمد في قطاع واعد.
لسنوات طويلة، كانت الدراما السورية واحدة من أبرز أدوات “القوة الناعمة”، تؤثر في الوعي العربي، وتسرد القصص الاجتماعية والتاريخية بلغة فنية عالية. الآن، وبإنشاء هذه المدينة تسعى سوريا إلى استعادة هذا الدور الثقافي في وقت تحاول فيه البلاد إعادة تموضعها إقليمياً.
بحسب تقرير “اليونسكو” لعام 2023 عن الصناعات الثقافية في منطقة الشرق الأوسط، فإن كل دولار يستثمر في الإنتاج الفني يخلق ما يعادل 1.6 دولار في قطاعات أخرى (سياحة، نقل، تكنولوجيا).
قد يبدو مشروع المدينة الفنية في سوريا وكأنه حلم يصعب تحقيقه وسط واقع مليء بالتحديات والتعقيدات، لكنه في الحقيقة تجسيد لفكرة أن إعادة الإعمار ليست فقط إسمنتاً وحديداً بل أيضاً قصة تُروى، وأغنية تُغنّى، وشاشة تُضاء. وإذا نجحت هذه المدينة في الوقوف فقد تكون ليس فقط منارة للدراما، بل منصة رمزية تقول للعالم [سوريا تصنع الحياة من جديد، بالكاميرا لا بالبندقية].