العالم العربي

إسلام الغمري يكتب : حزب البناء والتنمية… التجربة السياسية للجماعة الإسلامية بعد الثورة


(2 – 7) من سلسلة: الجماعة الإسلامية المصرية… من المواجهة إلى الرؤية

شكّلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 منعطفًا تاريخيًا حاسمًا في الحياة السياسية المصرية، إذ فتحت المجال العام بعد عقود من الإغلاق، ومكّنت التيارات السياسية المغيّبة من العودة إلى الساحة والمشاركة العلنية. وكانت الجماعة الإسلامية من أبرز هذه التيارات التي اغتنمت هذه اللحظة، وأطلقت ذراعها السياسي تحت اسم حزب البناء والتنمية، ليكون ترجمة سياسية لرؤيتها الإصلاحية، وانعكاسًا عمليًا لمراجعاتها الفكرية التي تطوّرت في سنوات المحنة.

وقدّم الحزب تجربة سياسية متمايزة داخل التيار الإسلامي، تميزت بالنضج والمرونة، وجمعت بين الالتزام بالمبادئ الإسلامية ومراعاة متطلبات الواقع السياسي المتقلب.

أولًا: النشأة والهوية… مشروع سياسي ذو مرجعية إسلامية ووطنية

تأسّس حزب البناء والتنمية رسميًا في يونيو 2011، كأحد أوائل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي نشأت بعد الثورة. وجاء الحزب تتويجًا لمراجعات فكرية عميقة خاضتها الجماعة الإسلامية داخل السجون، وأفضت إلى تبنّي خيار العمل السلمي والمشاركة السياسية كمنهج للإصلاح والتغيير.

وتميّزت انطلاقة الحزب بعدة ملامح بارزة:


• انتشار جماهيري سريع في مختلف المحافظات، لا سيما في الصعيد والدلتا.
• تبنّي خطاب متوازن يجمع بين الهوية الإسلامية والانفتاح على مختلف التيارات.
• ضمّ شخصيات وطنية مستقلة ومعتدلة من خارج الجماعة، مما منح الحزب طابعًا وطنيًا جامعًا.

ولم يكن الحزب مجرد تكرار لتجارب إسلامية سابقة، بل مثّل مدرسة خاصة في العمل السياسي الراشد، قائمة على الوضوح والتدرج والشفافية.

ثانيًا: الخطاب السياسي… توازن بين الثوابت ومتطلبات الواقع

تميّز الخطاب السياسي لحزب البناء والتنمية بالتوازن والرصانة، إذ جمع بين الالتزام بالثوابت الإسلامية والانفتاح على قضايا المجتمع والدولة، ومن أبرز سماته:
• رفض الإقصاء والدعوة إلى التعددية السياسية، وفتح المجال أمام جميع التيارات الوطنية.
• التركيز على قضايا العدالة الاجتماعية، وحقوق الفقراء، والتنمية في المناطق المهمشة.
• الامتناع عن الخطابات الإقصائية والتخوينية، حتى في أحلك اللحظات السياسية.
• الانخراط في تحالفات انتخابية وطنية دون تعصّب أو انعزال.

وقد أكّد الحزب مرارًا على دعمه لدولة العدل والقانون ذات المرجعية الإسلامية، مع إصرار واضح على الفصل بين الدعوي والسياسي، وهو ما أكسبه تميّزًا عن كثير من الأحزاب الإسلامية التقليدية.

ثالثًا: الممارسة السياسية… وعي واقعي وحضور فعّال

في أول اختبار انتخابي بعد الثورة، شارك الحزب ضمن تحالف الكتلة الإسلامية إلى جانب حزبي النور والأصالة، خلال الانتخابات البرلمانية أواخر عام 2011، وحقق نتائج طيبة تمثّلت في فوز عدد من مرشحيه بمقاعد في مجلسي الشعب والشورى.

وقد اتّسم أداء الحزب داخل البرلمان بـ:
• المشاركة الجادة في لجان التشريع والخدمات.
• تبنّي ملفات وطنية حيوية مثل العدالة الانتقالية، وإصلاح الأجهزة الأمنية، والدفاع عن حقوق الإنسان.
• الحفاظ على استقلالية القرار السياسي، وعدم الانجرار وراء أي جهة أمنية أو حزبية مهيمنة.

وعلى الرغم من حداثة التجربة، أظهر الحزب نضجًا لافتًا في التعامل مع المشهد السياسي، وتصرّف بمنطق المسؤولية دون التفريط في المبادئ أو الانزلاق نحو الصدام.

رابعًا: ما بعد 30 يونيو… الإقصاء والتجميد القسري

عقب أحداث 30 يونيو 2013، دخل الحزب مرحلة من الإقصاء السياسي والاستهداف الأمني المكثّف، أسوة بسائر مكونات التيار الإسلامي، وشهد ما يلي:
• حملات تشويه إعلامية ممنهجة، حاولت ربط الحزب بالعنف والتطرّف دون تقديم أدلة موثوقة.
• اعتقال عدد من قياداته البارزين، وتوسيع دائرة الملاحقات لتشمل كوادره الشبابية والنشطاء فيه.
• إصدار قرار بحل الحزب من قبل لجنة شؤون الأحزاب عام 2020، استنادًا إلى تقارير أمنية لا تستند إلى أحكام قضائية.
• مصادرة مقرات الحزب، وحظر كافة الأنشطة المرتبطة به أو بالجماعة الإسلامية.

ورغم هذا التضييق الشديد، ظلّ الحزب متمسكًا بالخيار السلمي، ورفض بشكل قاطع الانجرار نحو العنف، مؤكدًا على نهج الجماعة في رفض الصدام، وتمسّكها بالوسائل المدنية والقانونية.

خامسًا: تقييم التجربة… بين نضج الفكرة وقسوة الواقع

لم تكن تجربة حزب البناء والتنمية طويلة من حيث الزمن، لكنها كانت ثرية من حيث الدلالات والنتائج، فقد أثبت الحزب:
• قدرته على بناء خطاب سياسي متماسك ومتوازن.
• مشاركته الفعالة في المشهد العام دون صدام ولا انسحاب.
• تمسّكه بالسلمية والشرعية الدستورية حتى في أشد لحظات الانسداد السياسي.

في المقابل، لم تُظهر السلطة السياسية آنذاك أي رغبة في احتواء هذا النضج، وفضّلت التعامل مع الحزب كخصم يجب إقصاؤه، بدلًا من اعتباره شريكًا وطنيًا ذا رؤية ناضجة.

خاتمة: تجربة واعدة تنتظر فرصة العودة

لقد أثبتت تجربة حزب البناء والتنمية أن التيار الإسلامي قادر على تقديم نموذج سياسي ناضج ومسؤول، يتفاعل مع الدولة والمجتمع في آنٍ معًا، ويقدّم حلولًا واقعية دون أن يتنازل عن هويته.

ورغم أن التجربة قد توقّفت بفعل الظروف السياسية القاهرة، إلا أنها تظلّ شاهدًا حيًا على إمكانية الجمع بين المراجعة الفكرية والمشاركة السياسية، بين الشريعة والواقع، بين الإيمان بالتغيير والإخلاص للوطن.

وحين يتوفّر مناخ سياسي أكثر عدلًا وحرية، فإن تيار حزب البناء والتنمية سيكون مؤهلًا – بخبرته ورؤيته – ليكون من أبرز القوى الوطنية التي تساهم في بناء مصر جديدة… حرة، عادلة، وآمنة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى