
في يوم عاشوراء، تتقاطع في ذاكرتي صور متباينة حدّ التناقض، تمتد من لحظة انفلاق البحر بسِبطٍ من عصا نبي كريم، إلى لحظة انفلاق الرأس الشريف لابن بنت رسول الله ﷺ، بسيف الخيانة والغدر.
وبين هذا وذاك، يتبدى لي الفارق بين من يعظّمون هذا اليوم بالصيام شكرًا لله، ومن يحوّلونه إلى مسرح للدموع الكاذبة، واللطم، والادّعاء.
أقولها صريحة؛ عاشوراء ليس كما يروّجه من تمرغوا في وحل التاريخ، وليس كما تصوّره طقوس التشيّع المزيّفة، إنه يوم يقيس به الله وعي الأمة، ويُظهر به حقيقة العقيدة، ويكشف فيه الخبيث من الطيب.
حين نصوم يوم عاشوراء، فنحن لا نقوم بطقس شكلي، بل نعيد الاتصال بنور نبي الله موسى عليه السلام، حين شقّ الله له البحر ونجّاه من ظلم الطغيان الفرعوني.
نحتفل بانتصار الحق على الباطل، والعدل على الظلم، والنور على الظلام، هذه عقيدتنا، وهذه هويتنا كمسلمين سنّة.
نحن نُكرم هذا اليوم بما يليق به من روحانية وامتنان، أما أولئك الذين حولوه إلى مسرح جنائزي تملؤه الصرخات المصطنعة، والسلاسل الحديدية، وضرب الرؤوس حتى تنزف دمًا، فهم في حقيقة الأمر لا يحيون ذكرى استشهاد سيدنا الحسين رضي الله عنه، بل يواصلون قتله كل عام بطريقتهم الخاصة.
نحب أسيادنا الحسن والحسين، وستنا فاطمة وعليًا رضي الله عنهم أجمعين، وبقية آل البيت الطاهرين. نحبهم بصدق وإيمان، كما أحبهم رسول الله ﷺ، دون غلو أو تطرف، ولا تكفير ولا لعن، محبتنا لهم تنبع من قلب مخلص، ولا نسمح لتشويهات الأساطير أن تضللنا عن معاني حبهم الصحيح.
سيدنا الحسين رضي الله عنه، ابن ستنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ريحانة رسول الله ﷺ، لم يُقتل على يد “الأمويين” كما يروّج التشيع، بل قُتل بخناجر خرجت من عباءة الكوفة.
نعم، الكوفة الشيعية التي بايعته ثم خانته، الكوفة التي أرسلت له آلاف الرسائل بالولاء، ثم حين جاءهم تركوه وحده في كربلاء.
هم الذين تركوه يُقاتل العطش والموت معًا.، فكيف لمن تخلّى عنه، بل وتآمر على دمه، أن يدّعي اليوم البكاء عليه؟ وهل يُبكي من خذل، أم يُبكي من فدى؟
منذ أن امتدت يد الغدر إلى سيدنا الحسين رضي الله عنه، وسلسلة الدم التي نسج خيوطها التيار المنحرف الذي تجسّد لاحقًا في مذهب التشيّع لم تتوقف؛ من جذور الفتنة التي مهدت لاغتيال خلفاء رسول الله ﷺ، إلى خيانتهم العظمى يوم تحالفوا مع التتار على إسقاط دار الخلافة، إلى ما يقترفون اليوم من جرائم طائفية مروعة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، لا يسيرون إلا على درب الخيانة، ولا يحملون إلا لواء الطعن في الدين وأهله.
أينما حلّوا، حلّت الفتن، وسُفكت الدماء، هم لا يؤمنون بوحدة الأمة، بل بمظلومية متواصلة تبرر لهم العبث الدائم. لا مشروع لهم سوى التغنّي بالثارات، واللطم على الماضي، وإشعال النيران في جسد الأمة.
لقد رأينا جرائمهم المعاصرة، حين تحالفوا مع الاحتلال الأمريكي في العراق، وسلموه على طبق من طائفية، وسالت الدماء في النجف والفلوجة.
رأيناهم حين دعموا الطاغية بشار الأسد ضد شعبه، ودكّوا المدن السورية بحقد طائفي لا يُصدّق، رأيناهم في اليمن، وهم يحولون “أنصار الله” إلى “أنصار الخراب”، يرفعون شعارات سيدنا الحسين رضي الله عنه بينما يدمرون كل قيمه، رأيناهم، وسنظل نراهم، لأنهم ببساطة لم يغادروا موقع الجريمة منذ كربلاء.
عاشوراء، في وجهه السني، هو يوم توحيد لا تمزيق، يوم عبادة لا شعوذة، نحن نصوم، نقتدي بسنة رسول الله ﷺ، نشكر الله على نجاته لأنبيائه، ونترفع عن الشركيات التي تحيط بالدموع المصنوعة في مواكب التطبير.
لا نبيع سيدنا الحسين ولا نزايد عليه، بل نراه شهيدًا عظيما، نستلهم من موقفه معاني العزة والصمود، لا البكائيات والادعاء، نحن لا نلطم، نحن نستلهم، ونُبصر بوضوح من الذي تاجر بدمه، ومن الذي حماه في ذاكرة الأمة.
وليس الغريب أن بعض الشيعة اليوم، وهم يتّشحون بالسواد ويتسابقون على السكاكين، يلعنون الصحابة جهارًا، ويكفّرون الأمة كلها، ويزعمون حب آل البيت.
أي حب هذا الذي يبدأ بالكراهية؟ أي ولاية هذه التي لا تُبنى إلا على هدم تاريخ الأمة وتحقير رموزها؟ من يحب سيدنا الحسين لا يلعن سيدنا عمر ولا يطعن في عرض النبي ﷺ، من يحب سيدنا الحسين لا يضع الطين على الرأس بل يرفع الرأس باتباع سنّة جده محمد.
أما العالم الإسلامي اليوم، وهو يرزح تحت نيران الطائفية، فهو بحاجة إلى إعادة ضبط بوصلته، ليست القضية في الماضي، بل في توظيف الماضي لتبرير الحاضر.
الشيعة لم يقتلوا سيدنا الحسين فقط، بل يقتلون معانيه في كل عام، ويشوّهون رسالته، أما نحن، أبناء السنة، فنجدد في عاشوراء العهد مع الله، بأن نبقى على بصيرة، متمسكين بسنة النبي، مفتخرين بتاريخنا النقي من الخيانة.
عاشوراء ليس مناسبة دموية، بل لحظة وعي، يوم نعيد فيه النظر إلى أنفسنا، إلى تاريخنا، إلى موقعنا في هذه الفوضى.
لا نحتاج إلى طقوس عبثية، بل إلى وقفة صدق، فهل نسمع ما يقول سيدنا الحسين الحقيقي، لا سيدنا الحسين الذي يُستعمل في شعارات طائفية؟ هل نُحيي عاشوراء كما أرادها الله، أم كما أرادها من استثمر فيها قرونًا من الدجل السياسي؟
فلن تلتقي نار الشيعة ونور عاشوراء أبدًا، ولن يُمكن لمواكب الدم واللطم أن تغسل خيانة التاريخ، نحن نصوم، لأن الله أنجى سيدنا موسى عليه السلام، وهم يلطمون، لأنهم قتلوا سيدنا الحسين رضي الله عنه، والفرق، كل الفرق، بين من يُحيي الحقيقة، ومن يُميت الضمير.
في زمن تنهض فيه الأمم وتزدهر، لا يمكننا أن نسمح لأساطير مظلمة أن تسيطر على حاضرنا وتغطي حقائقنا. من أراد أن يكرم سيدنا الحسين، فليتبع نهجه في الصبر والثبات، لا أن يتاجر بموته ويحول دماءه إلى تجارة طائفية رخيصة.
ومن أراد الحق، فليقول الحق، ولو كان ذلك على حساب طائفة بأكملها. وأنا أقولها بكل جرأة ووضوح: لن تُحجب شمس الإسلام النقي أبدًا بغيوم الطائفية، ولن نسمح أن يُحتكر هذا اليوم العظيم إلا ليبقى ذكرى للنصر والكرامة، لا مسرحًا للهزيمة والانقسام.
هذا هو رأيي، أقوله بكل قسوة وصدق، بلا تجميل ولا مواربة.