من النضال المسلح إلى النضال السياسي.. السياقات والدوافع وراء مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية

سلسلة مراجعات الحركات الإسلامية – مركز حريات – يوليو 2025
تُعدّ مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، التي أُعلنت رسميًا من داخل السجون في يوليو 1997، واحدة من أبرز التحولات الفكرية والتنظيمية في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، لا سيما تلك التي انتهجت خيار المواجهة المسلحة مع الدولة. فهي أول تجربة مكتملة تعلن ـ بإرادة ذاتية ومن طرف واحد ـ وقفًا شاملًا للعنف المسلح، وتدشّن مسارًا جديدًا يعتمد السلمية والعمل السياسي تحت سقف مصالح المجتمع واهداف العمل الإسلامي.
وقد جاءت هذه المراجعات في سياق بالغ التعقيد، إذ تزامنت مع انسداد أفق العمل العام، وتصاعد القمع الأمني، واستنزاف شديد للطاقات البشرية والفكرية داخل الحركة. لكن المبادرة لم تكن استجابة لضغط أمني فقط، بل كانت ثمرة مراجعة داخلية عميقة، وإعادة تقييم مؤلمة لسنوات من العمل المسلح، وما أفرزته من خسائر جسيمة في الأرواح والتنظيم والمجتمع، دون تحقيق مكاسب تذكر.
لذلك، فقد شكّلت هذه المراجعة قطيعة معرفية مع خطاب الصدام، ومثّلت لحظة شجاعة في تاريخ التنظيم، حين تجرّأ على نقد ذاته وماضيه، وإعلان تحوّل جذري في رؤيته لمفهوم الجهاد والعمل الإسلامي في ظل الواقع المحلي والدولي المتغير. وقد أسست لتجربة جديدة في العلاقة بين الفكر والممارسة، بين الدعوة والسياسة، وبين الحركات الإسلامية والدولة.
لكنها في الوقت نفسه أثارت كثيرًا من الأسئلة والشكوك: هل كانت المراجعات فعلًا اختيارًا حرًا أم اضطرارًا تحت الضغط؟ وهل تمثل تحوّلًا فكريًا حقيقيًا أم مجرد تكتيك مرحلي؟ وهل كانت مراجعة للوسائل فقط أم تراجعًا عن المشروع؟ وما هو الأثر الحقيقي الذي تركته في الفكر الإسلامي المعاصر والمجتمع المصري عامة؟
تهدف هذه الورقة إلى تفكيك هذه الأسئلة من خلال تحليل السياق الذي سبق المراجعات، واستعراض دوافعها المباشرة وغير المباشرة، وبيان طبيعتها المعرفية والسياسية، مع تقديم قراءة أولية لآثارها الممتدة، في محاولة لفهم أعمق لأهم تجربة “نقد ذاتي جهادي” شهدها العالم العربي في العقود الأخيرة.
أولًا: النشأة والسياق التاريخي للصدام المسلح
ظهرت الجماعة الإسلامية في مصر في أوائل سبعينيات القرن العشرين، في قلب الجامعات المصرية، بوصفها امتدادًا لتيار الصحوة الإسلامية الذي كان يتشكّل في أعقاب هزيمة 1967، وبتأثير مباشر من المد الإسلامي المحلي والعالمي. وقد اتخذت الجماعة في بداياتها طابعًا دعويًا واجتماعيًا، وكان لها حضور واسع داخل الجامعات، لاسيما في الصعيد وجامعة أسيوط تحديدًا، حيث تكوّنت نواة التنظيم وقياداته التاريخية.
وفي ظل حالة الانفتاح السياسي النسبي خلال حقبة السادات، وتراجع نفوذ التيارات اليسارية، استطاعت الجماعة أن تفرض حضورها بقوة في الحياة الطلابية والنقابية. إلا أن حالة الشحن السياسي والديني التي رافقت مرحلة ما بعد “كامب ديفيد”، وتدهور الأوضاع الاجتماعية، واتساع الهوة بين النظام الحاكم والقوى الشبابية، دفعت الجماعة إلى تبنّي خيار التغيير العنيف، خاصة بعد أن اعتبروا أن الدولة لم تعد قابلة للإصلاح من الداخل.
جاء اغتيال الرئيس أنور السادات في أكتوبر 1981، ليشكل لحظة مفصلية في علاقة الجماعة الإسلامية بالدولة. فمع أن الجماعة لم تكن متورطة بشكل جماعي في عملية الاغتيال، إلا أن النظام حمّلها جزءًا كبيرًا من المسؤولية، وشنّ حملة اعتقالات غير مسبوقة طالت الآلاف من رموزها وقواعدها، وتمخّضت عن قطيعة كاملة مع الدولة، وبدء مرحلة المواجهة الشاملة.
في سنوات ما بعد الاغتيال، خاصة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، خاضت الجماعة ما يشبه الحرب المفتوحة ضد النظام المصري، نفّذت خلالها عمليات اغتيال طالت رموزًا سياسية وأمنية بارزة، مثل رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب، إضافة إلى عمليات استهدفت السياحة والمصالح الغربية، فيما ردّت الدولة بعمليات قمع واسعة، واعتقالات تعسفية، وتصفية جسدية، طالت المئات.
وقد أدى هذا الصدام إلى إنهاك بالغ في صفوف الجماعة، وأدى إلى إضعاف التنظيم خارجيًا وداخليًا، وامتداده أمنيًا خارج حدود مصر. كما أدّى إلى تعقيد الصورة الذهنية عن الإسلاميين في الوعي العام، وفرض حالة استقطاب داخل التيار الإسلامي نفسه، بين من رأى في العمل المسلح ضرورة شرعية، وبين من حذّر من كوارثه السياسية والمجتمعية.
لكن المفارقة اللافتة هي أن القادة التاريخيين للجماعة الذين قضوا سنوات طويلة في السجون، هم من بدأوا لاحقًا ـ من داخل الزنازين ـ التفكير في مراجعة هذا المسار. فالسجون التي أراد النظام أن تكون مقابر للتنظيم، تحوّلت إلى معامل لإنتاج المراجعة والنقد الذاتي. وبدأ يتبلور وعي جديد بأن خيار الصدام لم يكن قدرًا حتميًا، بل مسارًا يمكن نقده وتجاوزه، خاصة وقد ثبتت عواقبه الكارثية.
وهكذا، وبحلول منتصف التسعينات، كانت البيئة قد نضجت ـ فكريًا وتنظيميًا ـ لولادة مبادرة وقف العمليات المسلحة، التي انطلقت رسميًا في 5 يوليو 1997، وشكّلت بداية الانعطافة الكبرى في مسيرة الجماعة، ونقطة التحوّل من السلاح إلى السياسة، ومن المواجهة المفتوحة إلى المراجعة المتأنية.
ثانيًا: الدوافع الداخلية والخارجية لمبادرة وقف العمل المسلح
لم تكن مبادرة الجماعة الإسلامية لوقف العمل المسلح في يوليو 1997 مجرد ردّ فعل آني أو مخرجًا اضطراريًا تحت الضغط، بل كانت نتاجًا لتراكم طويل من التجارب القاسية، والخسائر المتوالية، والأسئلة الداخلية التي تصاعدت في نفوس القادة والكوادر حول جدوى العمل المسلح، وشرعيته، وأثره على المشروع الإسلامي نفسه. وقد تداخلت في الدفع نحو المبادرة جملة من الدوافع الداخلية العميقة، وأخرى خارجية موضوعية، شكّلت معًا بيئة حاسمة لإطلاق المراجعة.
أولًا: الدوافع الداخلية:
1. الاستنزاف التنظيمي والإنساني، حيث شهدت الجماعة الإسلامية خلال عقد ونصف من المواجهة نزيفًا واسعًا في صفوفها، سواء عبر القتل أو الاعتقال. تحوّلت مناطق كثيرة إلى بؤر أمنية مشتعلة، وعانت العائلات والأفراد من تبعات اقتصادية ونفسية هائلة، مما دفع القادة إلى مراجعة الكلفة غير المحتملة للاستمرار في النهج القتالي.
2. إفلاس الخيار المسلح، فبرغم الضربات التي وُجهت للنظام، فإن النتائج السياسية كانت شبه معدومة، بل على العكس، استخدمت الدولة تلك العمليات كذريعة لتوسيع القبضة الأمنية وتغول السلطات الاستبدادية، واستعادت عبرها شرعية فقدتها في نظر قطاعات واسعة من الشعب، ما دفع إلى التفكير في نجاعة الوسيلة.
3. تطوّر الوعي داخل السجون، فداخل المعتقلات، بدأ القادة التاريخيون للجماعة ـ بحكم خبرتهم واحتكاكهم العميق مع الواقع، وتراكم المعاناة، وغياب الزهو التنظيمي ـ بمراجعة نقدية شجاعة، أعادت قراءة التجربة من جذورها، وخلُصت إلى أن العمل المسلح لم يكن خيارًا شرعيًا مكتمل الرؤية، بل انزلاقًا قسريًا في كثير من الأحيان.
4. الإحساس بالمسؤولية التاريخية، حيث شعرت القيادات أن من واجبها الأخلاقي والشرعي وقف دوامة الدماء، وتحمل مسؤولية النصح للأجيال الشابة التي لم تعش السياق الكامل، والتي قد تقع فريسة للاندفاع، إذا لم تتلقّ خطابًا تصحيحيًا صريحًا من مرجعياتها.
ثانيًا: الدوافع الخارجية:
1. رفض المجتمع لصيغة الصدام، فقد أخذت صورة الجماعة الإسلامية في المجتمع المصري تتراجع تدريجيًا، خاصة مع توسّع الضربات الأمنية، وسقوط مدنيين، وتراجع السياحة، ما أثّر على النظرة الشعبية للحركة، وزاد من العزلة بين الجماعة ومجتمعها الطبيعي.
2. تغير البيئة الإقليمية والدولية، فقد جاءت المبادرة في لحظة كانت فيها الأنظمة العربية تعمل على إعادة ترتيب أوراقها مع الغرب، وفي ظل تصاعد الضغوط الدولية بشأن الإرهاب، خاصة من الولايات المتحدة. وهو ما جعل من المبادرة أمام فرصة محتملة لصياغة معادلة جديدة تحافظ على الكيان وتمنحه شرعية قانونية في العمل السلمي.
3. سعي النظام لتطويق العمليات المسلحة دون شراكة سياسية، فبرغم الخطاب العلني للنظام بأن العنف هو العائق الأكبر أمام التنمية والاستقرار، فإنه لم يُبدِ رغبة حقيقية في احتواء الجماعة أو إعادة دمجها، بل استغلّ المبادرة لفرض وقائع جديدة دون فتح الباب لأي حوار سياسي. وهو ما جعل المبادرة اختبارًا حقيقيًا لقدرة الجماعة على الحفاظ على مشروعها في ظل الحصار، وليس تسليمًا بشروط الدولة.
4. محاولة احتواء تمدد التيارات العنيفة الجديدة، فقد كان من الواضح في منتصف التسعينات تصاعد موجات التشدد في أوساط الحركات الإسلامية عالميًا، وكان داخل مصر أيضًا إرهاصات لولادة تيارات أكثر تطرفًا. وقد سعت القيادات التاريخية للمبادرة إلى قطع الطريق على هذا التمدد، عبر تقديم نموذج سلمي وسياسي جذري يربط بين الثوابت والمراجعة.
1. في ذات اللحظة كانت تهب من الشرق رياح تطرف اليمين الاسرائيلي بقيادة نتنياهو والذي وضع على المحك أولوية الصراع مع الكيان الصهيوني، وهو ما استلزم، في نظر المراجعات، عدم إضعاف الجبهات الداخلية، وهو ما اُدرج بوضوح في رؤية المراجعات يومها.
لقد تضافرت هذه العوامل لتنتج لحظة مفصلية، أطلق فيها قادة الجماعة ـ من داخل السجون وتحت أقسى الظروف ـ مبادرة فريدة، أعادت تعريف العلاقة بين الفكر والممارسة، وأعادت بناء مشروع الجماعة على أسس جديدة.
ثالثًا: طبيعة المبادرة… نقد ذاتي أم اضطرار سياسي؟
منذ إعلان مراجعات الجماعة الإسلامية عام 1997، لم يتوقف الجدل حول طبيعتها: هل كانت مراجعة صادقة نابعة من اقتناع داخلي ونضج فكري؟ أم كانت تراجعًا اضطراريًا أملته ظروف القمع والسجن والتآكل التنظيمي؟ بل ذهب البعض إلى اعتبارها مناورة تكتيكية لتخفيف الضغط الأمني دون تحوّل حقيقي في القناعة.
غير أن فحص السياقات، وتحليل مضامين المراجعات، ومتابعة التزام الجماعة بها لعقود لاحقة، يكشف أن الأمر يتجاوز التفسير الاختزالي الذي يحصر التجربة في “الاضطرار السياسي”، أو يُسقِط عليها افتراض “الاستسلام”. فالمبادرة، من حيث نشأتها وتطورها، تحمل ملامح نقد ذاتي فكري من داخل التجربة، لا عليها.
دلائل الطابع النقدي الذاتي:
1. انطلاق المبادرة من داخل السجون، لا من الخارج، فلو كانت المراجعة مجرد صفقة أمنية أو تكتيك اضطراري، لكان من الأجدى إخراجها عبر قيادات ميدانية طليقة أو عبر تفاهم مع النظام. لكن العكس هو ما حدث: المبادرة أُطلقت من رموز وقادة تاريخيين يقبعون خلف الأسوار، ما يعني أنها جاءت من رحم المعاناة والتأمل والتقويم الذاتي العميق.
2. غياب أي ضمانات سياسية أو قانونية مقابل الإعلان، فحين أعلنت الجماعة وقف العمل المسلح، لم يكن هناك اتفاق مكتوب، ولا وعد بالإفراج عن المعتقلين، ولا أي شراكة سياسية لاحقة. بل على العكس، تفاقمت الاعتقالات عقب المبادرة، وتعرض كثير من قادتها للاضطهاد، ما يدلّ على أن الإعلان كان أقرب إلى موقف أخلاقي وفكري من كونه صفقة سياسية.
3. العمق الفكري للمراجعات، فلم تقتصر المراجعات على الإعلان عن وقف العمل المسلح، بل صدر عنها عدد من الكتب والدراسات والحوارات التي أعادت قراءة التجربة الجهادية من جذورها: من مفاهيم الطاغوت، ودار الحرب، إلى قضايا الولاء والبراء، وأحكام الجهاد، والفارق بين شرعية الدولة والنظام. وهذا العمق لا يصدر عادةً عن تراجعات ظرفية، بل عن مراجعات معرفية منهجية.
4. الاستمرار الطويل في الالتزام بها رغم تغير الظروف، فبعد الثورة المصرية عام 2011، سنحت الفرصة للجماعة أن تعود للعمل العام عبر حزب “البناء والتنمية”، وكان بإمكانها ـ إن كانت المراجعة اضطرارًا مؤقتًا ـ أن تتنصل منها. لكنها بالعكس، أكدت التزامها الكامل بها، وواصلت الدفاع عنها، بل واجهت التيارات التكفيرية بصلابة فكرية وتنظيمية واضحة.
دوافع التأويل القسري للمبادرة:
ورغم ذلك، لا يُنكر أن بعض القوى، سواء داخل الدولة أو داخل التيار الإسلامي نفسه، حاولت تفسير المراجعة باعتبارها “خضوعًا تحت القهر”، لأسباب متعددة:
• أجهزة الأمن أرادت احتكار المبادرة وتقديمها كـ”نصر أمني”، لا كتحوّل فكري مستقل.
• بعض الجهاديين رأوا فيها “خيانة للتاريخ والدماء”، ورفضوا الاعتراف بشرعيتها.
• داخل المشهد الإسلامي اعتبرها البعض إعلانا للهزيمة، ونقطة خروج من المنافسة.
لكن مراجعة الأحداث بإنصاف، واستقراء مسار الجماعة قبل وبعد 1997، يرجّح كفة أن ما جرى كان تحولًا حقيقيًا، نابعًا من إرادة فكرية ناضجة، وإنْ لم يكن معزولًا عن واقع الاستنزاف والعزلة التنظيمية.
إن المراجعة ـ في نهاية المطاف ـ ليست سلوكًا يُقاس فقط بظروف إطلاقه، بل بمدى استمراره، ومضامينه، وآثاره. وفي هذا، تبدو مراجعات الجماعة الإسلامية أقرب إلى حالة تأسيسية لمدرسة جديدة في العمل الإسلامي، لا مجرد “استراحة مقاتل” أو تكتيك ظرفي.
رابعًا: الفرق بين التراجع عن الوسائل والتراجع عن المشروع
من أكثر الإشكالات التي أُثيرت حول مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، تلك المتعلقة بحدود التراجع: هل تراجعت الجماعة فقط عن “وسيلة العمليات المسلحة” باعتبارها لم تعد صالحة شرعًا أو واقعًا؟ أم تراجعت عن “المشروع الإسلامي” برمّته، بما يعني الدخول في منطق الدولة القائم، وقبول الاستتباع للنظام السياسي القائم؟
لقد حرص قادة الجماعة في جميع أدبياتهم وتوضيحاتهم على تأكيد أن المراجعة طالت الوسائل لا الأهداف، وأنها إعادة ضبط للبوصلة لا استقالة من الفكرة، وأن المشروع الإسلامي لا يزال قائمًا في الوجدان والرؤية والوظيفة، لكنّ السبيل إليه تغيّر، تَحوَّل من الصدام إلى التغيير السلمي، ومن الثورة المسلحة إلى الثورة السلمية والتغيير السياسي.
التراجع عن الوسائل: المراجعة العملية
أعلنت الجماعة بشكل صريح أن العمل المسلح، كما مارسته في سياقها المحلي، قد أثبت فشله شرعًا وواقعًا:
• فشلت الوسيلة في تحقيق الأهداف المرجوّة، بل ألحقت بالمجتمع والتنظيم أضرارًا فادحة، وقدمت للاستبداد هدية ثمينة لتكريس قبضته على المجتمع والشأن العام.
• أعطت الذريعة للنظام لتوسيع القمع، وسوّغت للداخل والخارج محاصرة التيار الإسلامي ككل.
• أثبتت التجربة أن السياق المصري لا يحتمل العمل المسلح، لا اجتماعيًا ولا سياسيًا، وأنه لا يمكن اختزال التغيير في البندقية.
وقد كانت هذه المراجعة نوعًا من “الاجتهاد الواقعي”، الذي يستند إلى فقه المقاصد، ويوازن بين المفاسد والمصالح، وهو ما أكدته مضامين الكتب التي صدرت بعد المراجعة، والتي أعادت تأصيل مفهوم الجهاد، وميزت بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، وبين مقاومة المحتل والعمل المسلح الداخلي.
الثبات على المشروع: الاستمرار في الغاية لا في الأداة
في مقابل ذلك، أكدت الجماعة مرارًا أنها لم تتراجع عن مشروعها الإسلامي الشامل، وأنها:
• لا تزال تعتبر الشريعة مرجعية عليا للحكم والمجتمع.
• وتؤمن بوظيفة الأمة في الشهادة على الناس، وبدور الدعوة في بناء المجتمع.
• وتطمح إلى إصلاح الدولة من الداخل، عبر الوسائل السلمية الجماهيرية أو الدستورية.
فالمراجعة، وفقًا لهذا الفهم، لم تكن إعلانًا عن نهاية المشروع الإسلامي، بل محاولة لإنقاذه من الاستنزاف، وتحريره من الوسائل المعطلة، وتطوير أدواته لتكون أكثر نجاعة في التغيير الحقيقي.
وقد انعكس هذا التوازن في تأسيس حزب “البناء والتنمية” بعد الثورة، الذي حمل رؤية سياسية واضحة، لكنه لم يتنصّل من خلفيته الإسلامية، بل قدم نفسه بوصفه امتدادًا شرعيًا لمراجعات الجماعة، ومحاولة لترجمة المشروع الإسلامي في إطار الدولة المدنية.
رفض المراجعة كـ”توبة للنظام أو تراجع عن المشروع”
كانت بعض الأطراف، خاصة في السلطة أو النخب المعادية للإسلاميين، تحاول أن تُحمِّل المراجعة أكثر مما تحتمل، وأن تُسقِط عليها تأويلات تتناقض مع مقاصدها، فأرادتها أن تكون “توبة سياسية” أو “استقالة من المشروع”، وهو ما رفضته الجماعة بقوة، واعتبرته تحريفًا لوظيفة المراجعة وتحويلًا لها من نقد للوسيلة إلى نفي للرسالة.
بل أكدت الجماعة أن أي مراجعة تفقد بوصلتها القيمية، وتتحول إلى ديكور سياسي يبرر الواقع، أو أداة للتماهي مع السلطة، أو غطاءً للقمع، هي مراجعة لا تساوي شيئًا، بل تضيف إلى المأساة مأساة أخرى.
وبهذا الفهم، شكّلت مراجعة الجماعة الإسلامية معلمًا فارقًا في تاريخ الحركات الإسلامية: مراجعة لا تنقض المشروع، بل تحميه من الوسائل الخاطئة، وتعيد تقديمه بأدوات سلمية قابلة للبقاء والفاعلية، دون أن تتورط في التنازل عن المبدأ أو الذوبان في الواقع.
خامسًا: قراءة أولية في آثار المبادرة على التنظيم والفكر والمجتمع
بعد مرور أكثر من ربع قرن على إعلان مراجعات الجماعة الإسلامية، أصبح بالإمكان تقديم قراءة أولية لآثار هذه المبادرة من حيث تأثيرها على البنية التنظيمية والفكرية للحركة، وعلى المجتمع الأوسع، بل وعلى خارطة العمل الإسلامي بشكل عام. لقد مثّلت المبادرة محطة فارقة، وتركَت بصمات عميقة في ثلاث دوائر رئيسة:
أولًا: على التنظيم
مثّلت المراجعة لحظة انعطاف كبرى في المسار التنظيمي للجماعة الإسلامية:
1. التحوّل من التنظيم شبه السري إلى الإطار العلني، فبعد عقود من العمل المغلق، بدأت الجماعة تتجه نحو التكيّف مع الحياة المدنية والسياسية، وتُعيد تشكيل نفسها ضمن إطار قانوني علني، تُوّج بتأسيس حزب “البناء والتنمية” بعد ثورة يناير.
2. إعادة هيكلة القيادة، فقد أفرزت المراجعة قيادة جديدة منتخبة تحمل مشروعًا سياسيًا مدنيًا. وهو ما عبّرت عنه أول جمعية عمومية عقدتها الجماعة في مايو 2011، بعد سقوط مبارك.
3. تجاوز الثنائية الأمنية، فلم تعد الجماعة تتصرّف باعتبارها مطاردة أمنيًا فحسب، بل باتت تفكّر بمنطق “المشاركة السياسية” و”الفاعلية المجتمعية”، مع الحفاظ على هويتها الإسلامية وموقعها ضمن خريطة التيار الإسلامي.
ثانيًا: على الفكر الإسلامي الحركي
شكّلت مراجعات الجماعة الإسلامية علامة فارقة في مسار الفكر الحركي الإسلامي، من عدة زوايا:
1. كسرت حالة الجمود وأعادت فتح باب الاجتهاد، فقد أعادت المراجعة الاعتبار لمنهج المراجعة الفقهية والسياسية داخل الحركات الإسلامية، وكسرت جمودًا طويلًا في التعامل مع النصوص والواقع، وحرّرت الكثير من المفاهيم المغلقة حول الجهاد، الحاكمية، التغيير، والموقف من الدولة.
2. إحياء فقه المقاصد والمآلات، حيث كان لمراجعات الجماعة دور بارز في تعزيز مركزية فقه المصلحة، واعتبار المآل والواقع من شروط صحة الوسيلة، وهو ما انعكس في أدبيات لاحقة صدرت عن رموز المراجعة، وجرى تبنّيه من بعض التيارات الإسلامية الأخرى.
3. تقديم نموذج مناهض للتيارات التكفيرية، فقد مثّلت المراجعة حصنًا مهمًا في مواجهة المدّ التكفيري المتصاعد بعد 2013، ووقفت سدًا فكريًا وتنظيميًا في وجه تنظيم داعش، ورفضت بشدة خلط الأوراق بين المشروع الإسلامي وبين مشاريع العنف الدموي العابر للقارات.
ثالثًا: على المجتمع والدولة
لم تكن المراجعة شأناً داخليًا للجماعة فقط، بل تفاعلت معها الدولة والمجتمع:
1. خفض منسوب العنف الداخلي، فقد ساهمت المبادرة في تهدئة الساحة الداخلية، وفتحت نافذة أمل لاحتواء تيارات أخرى، وأثبتت أن التيارات الإسلامية قادرة على التحوّل السلمي دون تفريط في الثوابت.
2. فرصة تاريخية أهدرتها الدولة، فبرغم هذا التحوّل الجذري، لم تتجاوب الدولة المصرية معه تجاوبًا إيجابيًا. فبرغم أن الجماعة أعلنت بوضوح التزامها بالسلمية ورفضها للعنف، إلا أن السلطات لم تمنحها أي مساحة قانونية حقيقية، بل واصلت إدراجها على قوائم الإرهاب، واعتقلت قادتها، وأفشلت اندماجهم السياسي، لا سيما بعد انقلاب 2013.
3. رسالة إيجابية للمجتمع، فقد أثارت المراجعة تقدير كثير من النخب المستقلة، وقدّمت صورة مغايرة عن الإسلاميين، بوصفهم قادرين على ممارسة النقد الذاتي، والتخلي عن العمل المسلح طوعًا، والانخراط في الحياة العامة بشروط سلمية.
خلاصة:
لقد تركت مراجعات الجماعة الإسلامية أثرًا عميقًا، رغم كل ما واجهته من تشكيك وتضييق. فهي تجربة نادرة في الساحة الإسلامية، تمثل محاولة جادة لإعادة تعريف العلاقة بين الوسيلة والغاية، بين الفكرة والواقع، بين القوة والتغيير.
وبرغم أنها لم تنجح في فرض تحوّل سياسي كامل بفعل الرفض الرسمي، إلا أنها نجحت في تأصيل مسار بديل، وفتحت الباب أمام مدارس جديدة في العمل الإسلامي، لا تتخلى عن المبادئ، ولا تنزلق إلى العنف، بل تسعى لبناء مشروع سياسي سلمي يعبر عن تطلعات الأمة في سياق معاصر.