شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: رقة من مذكراتي رسالة حبٍ لـ بلال الحبيب، وعوض، و الطنطاوي و قرطام و نبيل شرف الدين

صباح السابع من يوليو ٢٠٢٥، وصلتني رسالةٌ لا تشبه سواها… كُتبت لا بالحبر، بل بالدمع والشرف. خطّها ابني في السياسة والذاكرة، الحقوقي والسياسي النبيل بلال حبيب، ذاك الذي لم يطلب شيئًا مني قط، لكنه أعطاني اليوم كل شيء.

أعطاني اليقين أن في زمن الخذلان هناك من لا يزال يؤمن أن الكلمة موقف، والوفاء عقيدة، والسكوت ليس من شيم الأحرار. بلال الحبيب لم يكتب لي فقط، بل كتب عني وعنا جميعًا، عن زمنٍ صار فيه الصمت شرفًا زائفًا، والوفاء جريمة، والذكريات تُباع في أسواق الخوف.

لا أنكر أنني شعرت بالألم وأنا أقرأ، لكني شعرت أيضًا بفخرٍ يكفي لعُمرين. فابني الذي تخرّج من مدرسة #حزب_الغد، لم ينسَ معلّمه، ولم يتبرأ من تاريخه، ولم يُخفِ صورة جمعتنا… كما نصحه البعض.

تذكّرت في تلك اللحظة كل من صمت عن ذكر اسمي، وكل من هرب من واجب الكلمة، وكل من خشيني في العلن وأحبني في السر. هؤلاء لم يكونوا يومًا أبناءً، ولا أصدقاء… بل كانوا “أرقامًا” في دفاتر الحذر.

بعضهم من كبار القامات والعناوين إذا راسلتهم على واتساب برسالة “صباح الخير”، ردوا بإيموجي صامت أو بوردة بلا عطر… لكنهم حين يغادرون البلاد يتذكّرون فجأة أن لي في قلوبهم حنينًا مؤجلًا.

لم أُعاتب أحدًا، ولا أُدين أحدًا… لكني لا أملك أن أمنع قلبي من أن يتألم. فكيف لي أن أفهم هذا الصمت ممن عاشوا معي سنوات #الحرية، وتعلّموا كيف يكون الموقف؟ كيف صاروا يخافون من اسم، ومن ظل، ومن صورة؟

في رسالة سابقة كتب لي العزيز نبيل شرف الدين يسأل وبحق: “أما آن لك أن تشتاق لوطنك وأولادك وبيتك؟”

… فأجبته في نفسي وهو العزيز عليها: نعم، يا صديقي… لكن ماذا أفعل إن عدت غدًا؟

كيف أفتح باب بيتي المغلق منذ سنوات بالشمع الأحمر – وأقول لأبنائي: “لم أبع صوتي… لم أبدّل جلدي… لم أتلوّن”؟

نعم يا صديقي، لقد اخترت منفى القلب، ولم أهرب من وطن الذكرى… فأنا لم أغادره، بل بقي في صدري وفي قلمي وفي كل ما أكتب. ما فعلته لم يكن تمردًا على النعم، بل وفاءً لها. وما اخترته لم يكن انسحابًا من الوطن، بل تقدمًا في الصفوف الأولى لمواجهته عندما تحول من حضنٍ إلى قفص. كم أشعر بالامتنان لكل من لم ينسَ… ومنهم النبيل أحمد الطنطاوي، الذي سُئل في لقاء على شاشة الـBBC: “هل التقيت بـ أيمن_نور في لبنان؟”… فأجاب بكل صدق: “نعم”، دون أن يتلعثم أو يتحسّب.

وكم أنا ممتنٌ للصديق المحامي الشريف محمدعوض، رئيس حزب الخضر، الذي لا تفوته فرصة لذكر اسمي بمحبة وتقدير، رغم أننا لم نلتقِ منذ أكثر من عشر سنوات.

وممتنٌ أيضًا للمهندس النبيل أكمل قرطام، الذي كتب بالامس على صفحته كلمات من نور… كلمات تُشبه ما نُحاول أن نُبقيه حيًا في هذا الزمن الرمادي.

لا أنسى عشرات بل مئات من الأسماء التي تستحق أن تُكتب في سجل الوفاء… لكن حرصي على سلامتهم يمنعني الآن من ذكرهم. سيأتي يومٌ أُقبّل فيه جباههم، وأقول لكلٍّ منهم: “شكرًا لأنك لم تخف”.

شكرًا لك يا بلال حبيب… لقد فتحت ثقبًا في جدار الصمت، تسللت منه نسائم الذكرى، وحروف الشرف، وبوح الأبناء الذين لا يُنكرون آباءهم.

هذا الثقب هو ما جعلني أكتب، وأبكي، وأفتخر… لا لأنني قويّ، بل لأنني ضعيف بقوة من أحبوني دون خوف، وكتبوا عني دون تردد.

شكري أيضًا يمتد لكل من رفض تزوير التاريخ… لكل من آمن أنني لم أكن مشروع فتنة، ولا خصمًا للدولة، بل كنت وما زلت – رجلًا من رجال الوطن، وإن نُفِي في صمتٍ، وإن مُنِع من الظهور والذكر.

نعم، أنا أيمن نور، لم أُخفِ يومًا لفكري وتياري السياسي وقبلها انتمائي لبلدٍ صنعني وصنعت له. لم أُنشئ جماعة محظورة، ولم أحمل سلاحًا… كل ما حملته هو كلمة، وموقف، وذكرى. ربما أكون وقعت في اخطاء لكني لم ارتكب جريمه واحده في حياتي إلا حب مصر فسجنت بسببه خمسة مرات ونفيت

وها أنا اليوم أكتب من منفىالقلب، وأسكن في وطن الذكرى… لأن الأوطان التي تُحبك في السر وتخشى اسمك في العلن، لا تُسكن… بل تُحمل في القلب، وتُكتب على الورق، وتُصان في ضمير الأبناء.

شكرًا يا بلال، لأنك كتبت، وصدّقت، وأحببت… شكرًا لأنك لم تمسح صورك، ولم تُنكر ذكرياتك، ولم تخفِ اسمًا كان يومًا طريقك الأول

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى