
أكتب عن هذا الرجل بعد أربعِ سنواتٍ وبضعِ ساعاتٍ من رحيله، وكأنّ الزمنَ لم يمضِ، وكأنّ الذاكرةَ ما زالت تَنبضُ بحضوره.
أراه حيًّا في قلبي، وأسمع صوته الهادئ في وجدانٍ لم يزل يوقن أنّ الكبارَ لا يموتون، بل يُقيمون فينا على هيئةِ فكرةٍ، أو خُلُقٍ، أو أثرٍ طيّبٍ لا يُمحى.
لم تكن علاقتي بالأستاذ عبد الغفار شكر مجرّد لقاءٍ بين رجلين من أبناء محافظةٍ واحدةٍ، أو حتى مركزٍ واحدٍ في الدقهلية.
كانت علاقةً تمتدّ جذورها إلى زمن الآباء؛ علاقةَ محبّةٍ موروثةٍ بين بيتين جمعهما الوفاء والانتماء والودّ.
فوالده – رحمه الله – كان عمدةَ قرية تيرة، وقد فُصِل من العمودية لمناصرته حزب الوفد.
وكان أبي – رحمه الله – نائبًا عن دائرة طلخا ونبروه، التي تقع فيها قرية تيرة في قلبها، وكانت دائمًا إحدى نقاط الارتكاز الانتخابية لوالدي في كلّ معاركه البرلمانية، بفضل روابط المحبّة والعرفان التي نسجها الأستاذ عبد الغفار شكر مع أبناء المنطقة وأهلها، ومع أسرتنا التي ربطته بها علاقةٌ إنسانيةٌ وشخصيةٌ وطيدة.
منذ نعومة أظافري كنت أراه بيننا، وأشعر أنني أمام قامةٍ استثنائية، مختلفةٍ في طيبتها، عميقةٍ في فكرها، راقيةٍ في سلوكها، رفيعةٍ في أخلاقها.
كان حضورُه يُشبه الصمتَ النبيل الذي يسبق الحكمة، وهيبةُ العالم التي لا تحتاج إلى ضجيج.
ورغم أنّني لم أنتمِ إلى المدرسة السياسية التي وُلد منها فكره اليساري، فإنّني أُقرّ بفخرٍ أنّني تخرّجت من مدرسته الأخلاقية والإنسانية التي تَمنح الدروس بلا منابر، وتزرع الإلهام بلا ادّعاء.
من مدينةِ المنصورة، من قلب الدقهلية، خرج عبد الغفار شكر إلى فضاء الوطن الكبير.
وُلِد في 27 مايو 1936 بقرية تيرة – مركز نبروه، ونشأ في بيتٍ يفيض بالوطنية والمروءة.
كان جدّه عمدةَ القرية، ثم والده الذي تولّى العمودية من عام 1943 إلى 1946، قبل أن يُفصَل عنها لمناصرته الوفد.
رحل الأبُ في مايو 1947 حين لم يتجاوز الفتى الحادية عشرة من عمره، فكبرَت معه فكرةُ العدالة، وغرَسَت فيه الخسارةُ المبكرةُ نُبلَ الإحساس بالآخرين.
التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة وتخرّج عام 1958، ليدخل بعدها مبكرًا إلى عالم الفكر والسياسة والنضال.
انضمّ إلى هيئة التحرير عام 1953، ثم إلى الاتحاد القومي عام 1958، فالاشتراكي عام 1963، ليصبح في العام التالي أمينًا للتثقيف في تنظيم الشباب الاشتراكي، ثم أحد أبرز الوجوه في التنظيم الطليعي الذي أسّسه جمال عبد الناصر.
في مسيرته الفكرية كتب وألّف وأبدع، فأنجز دراساتٍ وكتبًا خالدةً في الفكر اليساري وقضايا المجتمع المدني والتحوّل الديمقراطي والعمل الحزبي.
من أبرز أعماله “الطليعة العربية: التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر (1965 – 1986)”، و“التحالفات السياسية في مصر 1976 – 1993”، و“القطاع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية”.
كانت كتاباته مرآةً لفكرٍ متوازنٍ لا يُقصي أحدًا، وإن كان يساريًا في مبدأه، إلا أنه ظلّ ليبراليًّا في روحه، إنسانيًّا في جوهره، مصريًّا في مواقفه.
تولّى مواقع مهمّة في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني؛ فكان نائبًا لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، ونائبًا لرئيس مركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة، ورئيسًا لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، وأمينًا للتثقيف في التنظيم الشبابي الاشتراكي، وعضوًا في المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.
لكن المناصب لم تُغيّر فيه شيئًا، لأنّها لم تكن هدفًا، بل وسيلةً لخدمة ما آمن به: “الإنسان قبل الدولة، والمبدأ قبل المكسب”.
ظلّ عبد الغفار شكر نموذجًا لما نفتقده اليوم في الحياة السياسية: مثقفًا عضويًّا لا ينفصل عن الشارع، مفكرًا لا يكتب ليرضي، بل ليُصلح، وسياسيًّا لا يرفع صوته، لأنّ منطقه أقوى من ضجيج الخصومة.
كان تواضعه وقاره، وكان ثباته صمته، وكان عطاؤه مزيجًا من الإيمان بالناس والإيمان بالفكرة.
أذكره في مجالسنا الهادئة، حين يتحدث عن القرية التي خرج منها، عن “تيرة” التي كانت نافذته الأولى على مصر، عن أبيه الذي علمه أن السياسة مروءة، وعن الوطن الذي ظلّ يراه مسؤوليةً لا ملكًا خاصًا.
كان يؤمن أنّ اليسار الحقيقي ليس صراعًا مع الدين، بل مع الظلم، وأنّ الوطنية ليست شعاراتٍ تُرفع، بل سلوكًا يوميًّا يُمارس.
كان في كل حوارٍ معه درسٌ جديد: كيف تحافظ على اتزانك في زمن الفوضى، وكيف تبقى مخلصًا لفكرتك حتى حين يرحل الجميع، وكيف يكون النُبل طريقًا للفعل، لا غطاءً للضعف.
كان ناصعًا في مبدئيته، نادرًا في رِقّته، عميقًا في إنسانيته، مُضيئًا في تواضعه، وكريمًا في عطائه لجيلٍ لم يكن يرى فيه سوى الأب والمعلّم والضمير الحيّ.
حين رحل في 31 أكتوبر 2021، لم يغِب.
بقيَ في الذاكرةِ رمزًا للصفاء السياسي والنقاء الإنساني.
بقيَ في القلب مثالًا للعقل الهادئ في زمن الصراخ، وللخلق الرفيع في زمن القسوة.
رحم الله الأستاذ عبد الغفار شكر، ابن الدقهلية البارّ، الصديقَ القديم لأسرتي، والرجلَ الذي ظلّ يُعلّمنا أنّ الكلمة يمكن أن تكون خندقًا، وأنّ الاختلاف لا يُفسد للودّ قضية، وأنّ الأخلاق – قبل الأيديولوجيا – هي ما يمنح السياسة معناها الإنساني الأجمل.







