مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: لما الأحزاب تبقى سماسرة.. يبقى السياسة تحولت لسوق نخاسة

ليتني أكتب هذا المقال بحبر الأمل؛ ليت الكلمات التي تخرج الآن من قلبي، لا تنزف هذا القدر من المرارة؛ لكن كيف أكتب عن واقع سياسي مهترئ دون أن تصرخ حروفي؟ كيف أزيف وجعي أو أتجاهل الحقيقة، والحقيقة تقول إن السياسة في وطني لم تعد سياسة، بل صفقة.

وإن الأحزاب، التي كان يُفترض أن تكون قلاعًا للديمقراطية، تحولت إلى مكاتب سمسرة، وكلما اقتربنا من موسم الانتخابات، انكشفت الفضيحة أكثر.

نعم، أقولها واضحة بلا تجميل .. الأحزاب في بلدي لم تعد تسعى لبناء وطن، بل تسعى لبناء تكتلات شخصية، مصالح، شبكات نفوذ، وأوراق ضغط؛ لا أحد يسأل عن الكفاءة، ولا أحد يهتم برؤية، ولا أحد يتحرى نزاهة.

المطلوب واضح .. من يدفع؟ من يساير؟ من يصمت؟ من يُبايع؟ ومن يرضى بأن يكون ترسًا صغيرًا في ماكينة الصفقات السياسية الكبرى.

صار الحزب السياسي أشبه بشركة قابضة، لها مجلس إدارة ومجموعة مساهمين، تبحث عن الربح بأي طريقة، حتى ولو كان على حساب شعب كامل.

من يتحدث عن مبادئ يُسخر منه، ومن يطالب بالشفافية يُقصى، ومن يرفض البيع والشراء يُوصف بأنه “مش فاهم اللعبة”؛ لكني أفهمها، وأعرف أن هذه “اللعبة” تذبح الوطن من الوريد إلى الوريد.

يا سادة، البرلمان – بيت الشعب – لم يعد بيتًا، بل غرفة خلفية لمكاتب المصالح؛ لم يعد منصة لمحاسبة الحكومة، بل مجرد ختم مطاطي يُمرّر كل شيء؛ المعارضة اختفت .. لا، بل دُفنت حيّة.

والأحزاب، بدلًا من أن تكون جسرًا بين الدولة والمجتمع، أصبحت وسيلة لتجميل المشهد من الخارج، بينما الداخل خاوٍ، مهترئ، فاسد.

من الذي قتل السياسة؟ من الذي حولها إلى سبوبة؟ من الذي قرر أن الشباب سلعة تُستخدم وتُلقى؟ من الذي أسس هذا السوق الكبير، حيث الكراسي تُعرض للبيع، والمقاعد تُرَتَّب مسبقًا، والأصوات تُشترى، والضمائر تُستبدل كأنها أوراق عملة؟

أنظر في عيون الشباب فأراهم يتراجعون خطوة بعد أخرى؛ يسألونني .. لماذا نشارك؟ ولمن نمنح أصواتنا؟ وأي مشروع نؤمن به؟ وللأسف، لا أملك إجابات شافية؛ فالمشهد بأكمله لا يمنحهم سوى اليأس، والأسماء المكررة، والوجوه المستهلكة، والولاءات المزدوجة.

الشباب ليسوا سلعة؛ لا تُقايضوا أحلامهم بمقاعد برلمانية هشة؛ لا تبيعوهم وهم التمكين وأنتم تخططون لإقصائهم.

لا تقتلوا فيهم فكرة المشاركة السياسية وأنتم تصنعون قائمة مغلقة مفصلة على مقاس الممولين والسماسرة.

هذا الجيل ليس غبيًا؛ يرى ويسمع ويفهم؛ لكنه تعب من تمثيليات الوطنية الزائفة، ومن أحزاب لا تحترم حتى أعضاءها، ومن منابر لا تجرؤ على قول الحق.

المصيبة الأكبر أن لا أحد يفتح فمه؛ الكل يساير؛ الكل يبارك؛ الكل يزين هذا الانحدار وكأنه تقدم؛ وحتى من بقي من الشرفاء في المشهد الحزبي، محاصرون ومهمشون وممنوعون من التنفس.

أي سياسة هذه التي لا تحتمل صوتًا معارضًا؟ أي أحزاب هذه التي تخشى نقاشًا جادًا؟ أي برلمان هذا الذي لا يجرؤ على سؤال واحد حقيقي .. من يحكم؟ كيف؟ ولماذا؟

التحالفات تُبنى فوق الطاولات لا تحتها؛ أما ما نراه، فتحالفات من ورق؛ مخصصة للوجاهة، للصفقات، للمجاملة.

لا يُحكمها مشروع، بل يضبطها “مزاج السمسار”، و”رغبة الممول”، و”حسابات البقاء”؛ وإذا سألت .. من هم سماسرة السياسة؟ تجدهم معروفين بالأسماء؛ يظهرون فجأة، ويتصدرون المشهد، ثم يختفون بعد أن يُغلق الصندوق وتُفرغ الجعبة.

المال السياسي قتل العدالة الانتخابية؛ وأجهز على ما تبقى من ثقة الناس في الصندوق؛ لم تعد الانتخابات محطة للتغيير، بل مناسبة للخيبة.

يتكرر فيها كل شيء .. الوجوه، الأساليب، وحتى النتيجة؛ والفارق الوحيد، أن الإحباط يتضاعف، والناس تنسحب أكثر، والوطن يدفع الثمن.

هل يعقل أن نصل لهذه النقطة دون صرخة؟ دون أن يقول أحد .. كفى؟ هل كتب على هذا البلد أن تظل السياسة فيه مهنة للانتهازيين فقط؟ أنا لا أكتب لأعاتب، بل لأفضح.

لا أكتب لأشكو، بل لأدق ناقوس الخطر؛ نحن نسير إلى الهاوية، وهذه ليست مبالغة، بل توصيف واقعي لوطن تُختطف فيه السياسة، وتُغتال فيه الكفاءات، وتُحاصر فيه النيات النبيلة.

أنا لا أهاجم النظام؛ لا أهاجم الدولة؛ بل أهاجم من يختبئون خلف الدولة، ويُخربون باسمها، ويُقايضون باسمها، ويُقزمون الفكرة الوطنية الكبرى في لعبة مصالح قذرة.

هؤلاء هم الخطر الحقيقي، لا من يعارض، ولا من يصرخ، ولا من يكتب؛ هؤلاء الذين جعلوا من العمل الحزبي خرابة مهجورة، ومن السياسة مسرحية هزلية بلا جمهور.

رسالتي؟ لا تصمتوا؛ لا تتركوا السياسة في يد السماسرة؛ لا تقبلوا بأحزاب صورية، وتحالفات ورقية، وبرلمانات صامتة؛ لا تسلموا مستقبل أبنائكم لمن يبيع الوطن بالحبة.

أعيدوا للسياسة كرامتها، وإلا فلا تلوموا الأجيال القادمة إن وصفتنا بأننا كنا شهود زور على جنازة وطن كان يستحق الحياة.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى