نادر فتوح يكتب: العمل العام والسلطة التقديرية.. بين ضمير القرار وسهام الاتهام

في زحمة القرارات والمطالب اليومية، ينسى كثيرون أن العمل العام لا يُدار فقط بنصوص صلبة، بل بمساحات مرنة تُعرف باسم “السلطة التقديرية”.. وهي المساحة التي تُمنح للمسؤول ليُقيّم، ويوازن، ويتخذ القرار الذي يراه الأصلح، بناءً على ما يتوافر أمامه من معطيات، وما يقدّره من مصلحة عامة.
لكن ما إن تُمارس هذه السلطة في موقفٍ ما، حتى تبدأ حملات الاتهام، ويُفتح باب الشكوك على مصراعيه.. وكأن التقدير يعني المزاجية، أو أن القرار جاء محاباة لطرف دون آخر!
ما هي “السلطة التقديرية”؟
ببساطة، هي تلك المساحة القانونية التي تتيح للمسؤول اتخاذ قرار بالموافقة أو الرفض أو التأجيل، بناءً على فهمه للسياق وتقديره للمصلحة، دون أن يكون مقيدًا بنص ملزم في كل حالة.
وتُعتبر هذه السلطة جزءًا أصيلًا من أدوات الإدارة الرشيدة في أي مؤسسة.. لكنها تظل سلاحًا ذا حدّين، يتوقف أثره على نزاهة من يُمارسها، وفهم الناس لطبيعتها.
لماذا يُساء فهمها دائمًا؟
الناس ترى النتيجة.. ولا ترى ما قبلها.
يرون القرار النهائي، لكنهم لا يشهدون ظروف اتخاذه، ولا يعرفون خلفياته، ولا الضغوط التي أُحيطت به، ولا الخيارات التي كانت متاحة بالفعل.
حين يُلبّى طلب شخص، يُقال: “ده تبعهم” أو “عندهم واسطة”،
وحين يُرفض، يُقال: “مبيساعدوش غير اللي يعرفوهم”!
بين الإنصاف الشخصي والعدالة المجتمعية
المسؤول الذي يتحمّل الأمانة، يعرف أنه لن يُرضي الجميع، لأنه ببساطة لا يُدير مؤسسة لصرف الرغبات، بل لموازنة الحقوق وتحقيق العدالة.
في كثير من الأحيان، يكون هناك تعارض بين ما يتمناه الفرد، وما تقتضيه المصلحة العامة. وهنا تظهر القيمة الحقيقية للسلطة التقديرية.. حين يُختار القرار الأصعب، لا القرار الأسهل.
سلاح السوشيال ميديا.. واغتيال النوايا
في عصر السرعة والانتشار، أصبحت السوشيال ميديا منصةً للحكم الفوري.
قرار واحد لا يُرضي شخصًا ما، يتحوّل إلى “بوست” غاضب، ومنشور مليء بالتجريح، تنتشر فيه نصف الحقيقة، وتُقطع الجُمل من سياقها، ويُفتح المجال للاتهامات.
وهكذا.. تتحوّل السلطة التقديرية من أداة قانونية، إلى مِعول للهدم.
متى تصبح السلطة التقديرية خطرًا؟
حين تُستخدم دون توثيق..
حين تفتقر للعدالة في المعيار..
حين تُغلف بالمحاباة أو تُدار بالأهواء..
عندها فقط تتحوّل من صلاحية إلى انحراف.
لكن وجود بعض التجاوزات لا يعني أن الأصل فاسد.. بل يستدعي الرقابة لا التشويه، والإصلاح لا الهدم.
بين النقد والإنصاف
المجتمع الذي يفهم معنى السلطة التقديرية، ويُقدّر ضغوط العمل العام، ويُناقش بحُسن نية، هو مجتمع يحمي نفسه من الفوضى.
أما حين تتحوّل كل ممارسة إلى شبهة، وكل تأجيل إلى تواطؤ، وكل قرار لا يوافق الهوى إلى ظلم.. فعلى المجتمع أن يُراجع مرآته قبل أن يُحاسب مسؤوله.
وختامًا.. المسؤول الشريف لا يخشى النقد، لكنه يتمنى فقط أن يُفهم قراره في سياقه، وأن يُقرأ جهده بنزاهة. لأن ما لا يراه الناس.. كثير، وما يُقال ليس دائمًا هو كل ما كان.