
ليس من المستبعد أن ينجح ترامب في إقناع نتنياهو، إبان زيارته الحالية إلى واشنطن، بتبني رؤية قريبة من تلك التي تحاول أجهزة الدولة العميقة في “إسرائيل” المساهمة في الترويج لها في المرحلة المقبلة.
يتولّد لدى المتابع لما يجري حالياً في الداخل الإسرائيلي انطباع عام بأن الشعور المسيطر على النخب السياسية والفكرية هناك، يعكس مزيجاً من الزهو والقلق في الوقت نفسه. زهو بما حققه “الجيش” من مكاسب عسكرية حاسمة على مختلف جبهات القتال، خصوصاً خلال الأشهر القليلة الماضية، وقلق من احتمال عجز نخبته الحاكمة عن ترجمة المنجزات العسكرية إلى مكاسب سياسية واستراتيجية تشبع حاجة المجتمع الإسرائيلي الماسة إلى الشعور بما يكفي من الأمن للثقة في مستقبل أفضل.
فوسائل الإعلام الإسرائيلية، على اختلاف توجهاتها ومواقفها، تؤكد لمشاهديها ومستمعيها وقرائها، في كل لحظة، أن “الجيش” حقق انتصارات كبرى في كل المعارك التي خاضها على الجبهات الفلسطينية واللبنانية والعراقية والسورية واليمنية والإيرانية.
فعلى الجبهة الفلسطينية، قام بتدمير قطاع غزة وألحق هزيمة كاسحة بجميع الفصائل المسلحة، ما أدى إلى انهيارها وتفككها على نحو دائم. وعلى الجبهة اللبنانية، نجح في إخراج حزب الله من الميدان، بعد اغتيال قياداته، وأصبح بالتالي في وضع لا يسمح له لا بتقديم المساندة للشعب الفلسطيني ولا حتى بالمحافظة على مكانته داخل معادلة السياسة اللبنانية.
وعلى الجبهة العراقية، استطاع احتواء الميليشيات المسلحة وتحييدها، بعد أن أجبرت على الصمت، وبالتالي لم يعد لها أي دور يمكن أن تلعبه على ساحة الصراع الإقليمي. أما على الجبهة السورية، فقد سقط النظام الذي كان بمنزلة رئة تسمح لحزب الله بالتنفس وتتيح لإيران إطلالة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وحلّ محلّه نظام مختلف،
يتطلع إلى التحالف مع المعسكر الغربي وأصبح مستعداً للتحوّل إلى حائط صدّ أمام تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. وعلى الجبهة الإيرانية، أثمر التنسيق التام بين الجيشين الإسرائيلي والأميركي إزالة ليس التهديد الناجم عن برنامجَي إيران النووي والصاروخي فحسب، وإنما أيضاً التهديدات التي كان يمثلها “محور المقاومة” ذات يوم بالنسبة على “إسرائيل”.
يدرك الجمهور الإسرائيلي أن جماعة أنصار الله اليمنية ما تزال قادرة على إطلاق بعض الصواريخ أو المسيرات من حين إلى آخر، وأن الفصائل الفلسطينية المسلحة ما تزال تحتجز عدداً لا بأس به من الرهائن وقادرة على إلحاق المزيد من الخسائر في صفوف “الجيش” المتوغل في قطاع غزة، غير أن هذا الجمهور يصدق إجمالاً ما يقال له عن أن هذه الجماعات والفصائل لم تعد تشكل أي تهديد فعلي لأمن “إسرائيل”، بل ولم تعد قادرة على ممارسة أي تأثير يذكر على مسار الصراع الدائر في المنطقة، ومن ثم يتطلع إلى تحويل المنجزات العسكرية إلى مكاسب سياسية واستراتيجية تفضي إلى:
- 1- نزع سلاح حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وإلزام كبار قادتها بمغادرة القطاع، مقابل ضمانات بعدم ملاحقتهم أو التعرض لهم أو لأسرهم بالأذى.
- 2- إلزام حزب الله بتسليم ما تبقى من ترسانته التسليحية للدولة اللبنانية، وإخلاء منطقة الجنوب من أي وجود مسلح، فيما عدا العناصر التابعة للجيش أو لقوات اليونيفيل.
- 3- التوصل مع إيران، طوعاً أو كرهاً، إلى اتفاق يحرم عليها القيام بأي عمليات تخصيب لليورانيوم على أراضيها، ويضع منشآتها النووية كافة تحت الرقابة الدائمة والصارمة لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية، ويحجم برنامجها التسليحي، خصوصاً ما يتعلق منه بتصنيع المسيرات والصواريخ الباليستية.
- 4- توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية لضم سوريا ولبنان، في مرحلة أولى، ثم السعودية ودول عربية أخرى في مرحلة تالية.
رغم ما تنطوي عليه هذه المطالب من غلو وشطط، فإنها تبدو معتدلة إلى حد كبير إذا ما قورنت بمطالب الجناح الأكثر تطرفاً في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهو جناح لا يكتفي بالمطالب السابقة، وإنما يضيف إليها مطالب أخرى، أهمها:
- 1-إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، تمهيداً لاستيطانه وتهجير الفلسطينيين منه.
- 2- ضم الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها على الأقل.
- 3- هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه. ولأن بعض شرائح النخب السياسية والفكرية في “إسرائيل”، خصوصاً الشرائح الأكثر ارتباطاً بالدولة العميقة، تخشى من ضياع الفرصة التي تراها متاحة حالياً لتحويل ما تحقق من منجزات عسكرية إلى مكاسب سياسية واستراتيجية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، بسبب تعنّت حكومة نتنياهو التي تتحكم فيها أهواء وشطحات الجناح الأكثر تطرفاً، فقد نشطت بعض مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في طرح رؤى وأفكار أكثر عقلانية حول “اليوم التالي”،
يمكن تلخيص أهم عناصرها الرئيسية في:
1- ضرورة القبول بانسحاب متدرج وكامل لـ”الجيش” الإسرائيلي من قطاع غزة، على أن يكتمل هذا الانسحاب باكتمال صفقة التبادل (التي سيتم بموجبها تبادل الرهائن الأحياء ورفات الجثث المتبقية، مقابل الإفراج عن عدد يتفق عليه من المعتقلين الفلسطينيين).
2- تسليم شؤون إدارة قطاع غزة لقوات عربية ودولية تتولى الإشراف بنفسها على نزع سلاح الفصائل الفلسطينية وترحيل قادتها إلى خارج القطاع.
3- البدء في إعادة إعمار القطاع وفق الخطة التي اقترحتها مصر وتبنتها كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
4- تنشيط الجهود الدبلوماسية الرامية إلى توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام، بالتزامن مع فتح طريق نحو إقامة دويلة فلسطينية منزوعة السلاح، تشمل قطاع غزة وما تبقى من الأراضي الخالية من المستوطنات اليهودية والقابلة للاستنقاذ من مخالب الصهيونية الدينية في الضفة الغربية.
ليس من المستبعد أن ينجح ترامب في إقناع نتنياهو، إبان زيارته الحالية إلى واشنطن، بتبني رؤية قريبة من تلك التي تحاول أجهزة الدولة العميقة في “إسرائيل” المساهمة في الترويج لها في المرحلة المقبلة. فالتصريحات التي أدلى بها مؤخراً بعض كبار القادة الأمنيين، تؤكد أن العملية العسكرية الجارية حالياً في قطاع غزة استنفدت أغراضها بالكامل، خصوصاً بعد أن تبيّن على وجه اليقين استحالة استعادة الرهائن أحياء.
وحتى بافتراض إمكانية التضحية بالرهائن، باعتبارهم قتلى وضمن خسائر الحرب المكلفة، فليس لـ”إسرائيل” أي مصلحة في إعادة احتلال قطاع غزة واستيطانه إلا في حالة واحدة فقط، ألا وهي النجاح في التهجير الكامل والقسري لكل سكان القطاع، وهو أمر لا يستبعد كثيرون أن تكون له عواقب وخيمة، بما في ذلك احتمال اندلاع الحرب مع مصر، وهو احتمال لا يوجد عاقل في “إسرائيل” يخاطر حتى بمجرد التفكير فيه، ومع ذلك ففي “إسرائيل” من المجانين ما يكفي للتحسب لأكثر الاحتمالات سوءاً.
نخلص مما تقدم إلى أن المجتمع الإسرائيلي لا يبدو جاهزاً في الوقت الحالي لتقبل حلول تستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، أو حتى لتسويات على أساس الحد الأدنى المقبول عربياً.
فأكثر التوجهات اعتدالاً في هذا المجتمع المتعصب، غير القادر حتى الآن على إدراك أن المعضلة الرئيسية تكمن في احتلال أراضي الغير الذي يولد الإرهاب وليس العكس، لا ترقى للقبول بفكرة وأهمية إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وأقصى ما يمكنه القبول به في المرحلة الراهنة هو شبه دولة منزوعة السلاح في قطاع غزة، بعد تقليص عدد سكانه إلى أقصى حد ممكن، مضافة إليه مساحات محدودة جداً من الضفة الغربية.
وحتى هذا الحل، المرفوض فلسطينياً وعربياً بكل تأكيد، لا يبدو قابلاً للتطبيق على أرض الواقع إلا بعد سقوط حكومة نتنياهو الحالية وتشكيل حكومة جديدة خالية من العناصر الأكثر تطرفاً، وهو سيناريو غير مضمون الحدوث أيضاً. لذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً في هذه الحالة، يجب أن يصاغ على النحو الآتي: هل موازين القوى القائمة حالياً تجبر الفلسطينيين والعرب على التعاطي مع تسويات من هذا النوع؟
الواقع أن نغمة الانتصار التي تصدح بها وسائل الإعلام الصهيونية في هذه الأيام تبدو أعلى بكثير مما تعبر عنه موازين القوى القائمة على أرض الواقع. فرغم كل ما تلقاه “محور المقاومة” من ضربات موجعة، فإنه لم يهزم، بل وتمكن من توجيه ضربات غير مسبوقة في تاريخ المشروع الصهيوني، نجحت في إسقاط كل الأقنعة عن الطبيعة العنصرية والإجرامية لهذا المشروع، وفي تعرية هشاشته وإثبات قابليته للهزيمة في المدى المنظور.
فالمقاومة الفلسطينية لم تستسلم ولم تلق السلاح بعد، وحزب الله اللبناني أوقف القتال تحت ضغط الداخل، لكنه لم ولن يخرج من “محور المقاومة”. واليمن ما زال ينبض بالكبرياء ويعبّر عن الشرف العربي في أسمى معانيه. وإيران دخلت على خط الصراع المباشر مع المشروع الصهيوني ولكن تستطيع الخروج منه بسهولة، حتى لو أرادت، وبالتالي لن تقبل الخضوع لإملاءاته. والأنظمة الحاكمة في العالم العربي، التي اختارت موقع المتفرج في الجولة الراهنة من الصراع المسلح مع المشروع الصهيوني، لن تقوى على تحمل كل مطالبه وإملاءاته، والأهم أن لديها أوراقاً كثيرة لم تستخدم بعد وستضطر لاستخدامها يوماً.
سوريا هي نقطة الضعف العربي الأكثر قابلية للإيلام هذه الأيام، خصوصاً في حال نجحت الضغوط الصهيوأميركية في اختراقها من الداخل، لكن ليس لدى “إسرائيل” أو الولايات المتحدة ما يقدمانه لسوريا العربية.
وحين يدرك الجولاني أن الخيار الوحيد المطروح أمامه هو التنازل عن الجولان كثمن لبقائه في السلطة، سيكتشف على الفور أنه لم يعد أمامه سوى الاختيار بين العمالة والمقاومة، وحينها سيصبح المسار الذي سيسلكه الصراع مع المشروع الصهيوني في المرحلة المقبلة أكثر وضوحاً، وهو مسار لا يخالجني أي شك في أنه سيسير حتماً على نهج المقاومة بكل أشكالها.