
يحيي السنوار صانع تحول حضاري في مسار الأمة.. في عالم يموج بالهزائم المتتالية والانكسارات النفسية والجغرافية للأمة الإسلامية، وفي زمن سيطر فيه خطاب الواقعية المهزومة والاستسلام التدريجي للعدو، برز من قلب الحصار والنار رجل أعاد رسم ملامح الطريق، وصاغ تحولًا حضاريًا جديدًا في عقل الأمة وسلوكها ووجهتها.
إنه يحيى السنوار، القائد الفلسطيني الذي لم يُعرف فقط بصلابته العسكرية أو براعته القيادية، بل برؤية حضارية نهضوية متكاملة تُعيد تعريف المقاومة كطريق للتحرير وبناء الإنسان واستنهاض الأمة.
يحيي السنوار كرؤية ونهج وبناء فى الميزان بعدل وانصاف بعيدًا عن التخيل والمبالغات.
المحور الأول: الرؤية الحضارية– من فكر المقاومة إلى مشروع نهضة.
لم يكن مشروع السنوار مجرد مقاومة بالسلاح، بل هو مقاومة حضارية شاملة.. فالرجل يؤمن أن المعركة مع الكيان الصهيوني ليست فقط معركة جغرافيا وحدود، بل معركة وعي وهوية ومصير أمة.
ومن هذا المنطلق، يمكن تلخيص رؤيته في النقاط الآتية:
1- تحرير الإنسان قبل الأرض: اعتبر السنوار أن الإنسان الفلسطيني والعربي هو الجبهة الأولى، وأن تحرير الإرادة والوعي شرط لتحرير الأرض. لذا أولى اهتمامًا خاصًا ببناء الإنسان المقاوم، المؤمن، القوي، الواعي.
2- فلسطين بوابة النهضة: رأى في تحرير فلسطين طريقًا لا هدفًا فقط، وأن هذا الطريق إذا ما سلكته الأمة بوعي وثبات، فإنه سيؤسس لنهضة حضارية تعيد للأمة دورها العالمي.
3- المقاومة كفعل حضاري: قدّم نموذجًا يجعل من المقاومة عملاً مؤسساتيًا منظمًا، ينبني على قيم العدل والتضحية والانضباط، وليس فقط رد فعل عسكري.
المحور الثاني: التحول التنظيمي– من فصائلية الدفاع إلى مؤسسية التحرير.
من أبرز ما ميّز تجربة السنوار هو تحويل العمل المقاوم من حالة فصائلية إلى مؤسسة مقاومة مدنية وعسكرية متكاملة على النحو التالى:
1- تطوير بنية القسام: رفع من قدرات كتائب عز الدين القسام إلى مستوى جيوش محترفة، بقدرات هندسية واستخباراتية متقدمة، موازية للعدو بل ومتجاوزة أحيانًا في الإبداع.
2- تمكين الجبهة الداخلية: لم يترك خلفه شعبًا جائعًا ومنهارًا، بل عمل على تحقيق نوع من التوازن بين السلاح والعيش الكريم، فاهتم بالخدمات والتعليم والمجتمع رغم الحصار.
3- القيادة بالأخلاق والتواضع: تخلّى عن المظاهر والبذخ القيادي، وعاش بين الناس، يتحرك معهم ويتألم لآلامهم، مما جعل القيادة جزءًا من الشعب لا طبقة فوقه.
المحور الثالث: فن القيادة السياسية– بين الحنكة والتحدي.
رغم انتمائه الصلب للتيار الإسلامي، وخصوصًا لحركة حماس، فإن السنوار استطاع أن يكون قائدًا وطنيًا وحدويًا، من خلال:
1- خطاب وحدوي جامع: تجاوز الخطابات الإقصائية، وأطلق نداءات شراكة مع الكل الفلسطيني، بما فيهم من خالفه فكريًا أو سياسيًا.
2- تكتيك تفاوضي ذكي: استخدم التفاوض مع الاحتلال والأطراف الإقليمية من موقع قوة لا ضعف، ففرض شروطه في أكثر من مرة، آخرها معركة “سيف القدس” حيث غيّر قواعد الاشتباك.
3- المزج بين الثورية والبراغماتية: كان ثوريًا في الثوابت، لكن واقعيًا في الوسائل، فأدار الملفات السياسية بذكاء، دون تفريط أو تهور.
المحور الرابع: البناء في زمن الحصار– نموذج غزة المقاوم
من أهم مظاهر التحول الحضاري الذي قاده السنوار هو تحويل غزة من سجن كبير إلى قاعدة مقاومة ومختبر تحرر فتمكن من:
1- إدارة الحصار لا الخضوع له: واجه الحصار الخانق بصبر استراتيجي، ورفض أن يُستعمل لابتزازه سياسيًا أو أخلاقيًا.
2- إعادة إنتاج الموارد: دعم مشاريع الزراعة والصناعة والتحول نحو الاكتفاء الذاتي، في تحدٍ للنموذج الاقتصادي التابع.
3- المجتمع المقاوم: عمل على ترسيخ ثقافة المقاومة في المدارس والجامعات والمجتمع، فجعل المقاومة جزءًا من هوية المجتمع لا مهمة نخبوية.
المحور الخامس: استنهاض الأمة– من خطاب الفصائل إلى خطاب الأمة.
لم يحصر السنوار مشروعه في غزة أو فلسطين، بل وجّه خطابه للأمة، مخاطبًا الجماهير والعلماء والحركات والشباب فأصاب الهدف وحقق المراد.
1- الرهان على الشعوب: خاطب الشعوب العربية والإسلامية وراهن على يقظتها رغم خيانة الأنظمة، فكان خطابه في معركة “سيف القدس” موجهًا إلى الأمة بكل أطيافها.
- إحياء رمزية المسجد الأقصى: أعاد للقدس مكانتها المحورية في وعي الأمة، باعتبارها مرآة عزة الأمة أو ذلها.
- التحالف مع أحرار العالم: فتح الباب أمام تحالفات شعبية أممية مع من يناصرون القضية، فكان لخطابه صدى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
خاتمة
السنوار.. من شخص إلى مشروع.. يحيى السنوار ليس مجرد قائد، بل حالة حضارية تحتاج إلى أن تُدرس وتُحتضن وتُستكمل، لقد فتح بابًا جديدًا من أبواب التاريخ.
حيث يلتقي الإسلام بالتحرر، وتلتقي السياسة بالأخلاق، وتلتقي المقاومة ببناء الحضارة، إن مستقبل الأمة مرهون بتكرار هذه التجربة وتوسيع دائرتها. فالمطلوب اليوم ليس فقط حماية السنوار، بل صناعة ألف سنوار في كل جبهة مقاومة ووعي وقيادة.