
كان الجو مظلما رغم شمس النهار التى تُشرق كل يوم على استحياء وتردد، لكن ضباب المدينة يغطّى على كل شيء كأنها مدينة أشباح، لا تكاد ترى من المنازل سوى ضوء خفيف لنوافذ مواربة، خلفها ستائر شفافة وخيال الشموع يظهر على الستائر كعمود عملاق برأس نارية تترنح يمنيا وشمالا، تعيش المدينة مع غروب الشمس كل يوم ليل العصور الوسطى والانقطاع عن العالم الخارجي.
تجول شاب في مقتبل عمره بين الحواري والأزقة علّه يجد أى مظهر من مظاهر الحياة الحيّة فيرتمي بين أحضانه ليشعر بالأمان، كان يسير ببطء وحذر ومعه كشاف إضاءة صغير يبحث عن نسمة دافئة تدثره، وكوب ساخن في حانة قديمة ينشّطه، يضخ الدفء في عروقه المتجمدة من برودة الوحدة وظلام الخوف وروتين السلطة القاتل، أو ينير الطريق لتائه بين شقوق الظلام التي تملأ جدران المدينة، بقى سائرا وحده حتى استوقفه رجل ضخم الجسد، ملثم الوجه، بيده عصا قصيرة سوداء، يتدلى منها خيط رفيع ولافتة صغيرة عليها عبارة لم يستطع قراءتها جيدا.
سأله الرجل الضخم: لماذا تسير في هذا الوقت من الليل؟ ألا تعلم أن السير ليلا من المحظورات؟ ارتبك الشاب ورد بعفوية غير محسوبة: مَن قال هذا؟ رد الرجل بتذمر قائلا: إنه الأخ الأكبر ألا تعرفه وتذعن لأوامره؟ أجاب الشاب: إن كان هو أكبر فحريتي أكبر منه! ودعني أكمل سيري لا شأن لك بي.
ازداد حنق الرجل الضخم على الشاب وجرأته السافرة، كيف يجرؤ على المعارضة والرد بهذه الطريقة الشجاعة، لكن على غير العادة تركه الرجل يذهب حيث يريد، ما زاد من جرأة الشاب أكثر وظن أنه انتصر.
وقف الشاب في دائرة ظلام داكنة وتحت قديمه بقايا مطر خفيف، نظر إلى النوافذ يتخيل ما يدرو وراءها، لماذا الناس هنا هكذا؟ أين حركة الحياة؟ ومَن هذا الذي يُدعى الأخ الأكبر؟ تساؤلات طرحها على نفسه تُعدّ من المحرمات في المدينة، إذن.. فقد تجاوز هذا الشاب الخطوط الحمراء وتعدى طوره وأطلق عقله ولسانه، وبعد لحظات من صمت نفسي ممزوج بصمت ليل ثقيل ومتهاوٍ، سمع الشاب صوت كشاف إضاءة قوى يُسلط الضوء على جدران المدينة، كلما مر الضوء على جدار ظهرت عبارة تقول: “الأخ الأكبر يراقبك، فاحذر”. ثم يختفي الضوء ويسود الحيطان السواد مرة أخرى.
لم يفهم الشاب بعد ماذا يحدث، وفجأة ظهر له رجل آخر ضخم البنية هيئته مشابهة لمظهر المدينة الحزين المتشح بالسواد، كأنه شبح خرج من بين أزقة المدينة المرعبة، قال له الرجل: مَن أنت؟ ولماذا تسير هنا؟ ألا تعلم أن السير في هذا التوقيت من المحرمات؟ فرد الشاب بنفور وغضب: مَن حرّمه؟ رد الرجل: المحسن الكبير! عادت الدهشة إلى الشاب مجددا، هناك أخ أكبر وهنا محسن كبير، ما القصة؟
في تلك اللحظة أحس الشاب بنبضات قلبه تخفق خوفا عكس أول مرة، عرف لماذا تركه الرجل الأول يمر بسلام، لكنه حاول التظاهر بالشجاعة وقال: ليس لأحد على أحد سلطان في تلك المدينة، دعني وشأني؟ وعد من حيث أتيت، لا يهمني كبير ولا أكبر.
وهنا انقلب كل شيء، غلظ صوت الرجل وعمل كشاف الإضاءة مجددا لكن تلك المرة سُلط الضوء على وجه الشاب، وجاء الرجل الأول ليقف بجوار الثاني وهو يضحك ويقول: ما نفعتك حريتك أيها الأبله، هيا نادى فلن يسمعك أحد، نظر الشاب إلى النوافذ يحدوه الأمل أن يخرج من يساعده ويبعد هذان الرجلان عنه، فلا مجيب، قال له الرجل الضخم إن تلك الجدران التى نظرت إليها شفافة عكس ما ترى، لا تظن أننا غافلون عما يدور خلفها، وكل مَن يعيش وراءها هم مجرد عرائس يُحركها المحسن الكبير والأخ الأكبر، فلا تعول عليهم، إذ كيف لبعوضة مثلك أن تتجرأ وتكسر حواجز الخوف والظلام لتزعجنا بضجيجها؟
حاول الشاب التحلى بشجاعة الخائف وقال لهما: لكل حاجز معول يكسره ولكل ظلام فجر يشقه، وهؤلاء الذين يعيشون خلف النوافذ كالجرذان لا تأمنوا على أنفسكم منهم طويلا، فحين لا يجدون ما يأكلون سوف يأكلونكم، أنتم تُجيعونهم بالخوف والقوة وهم سيأكلونكم باليأس وانعدام الأمل وكراهية الحياة، حينها لن يكون هناك كبير ولا أكبر بل كثير وأكثر، وسوف تخرج أرواح الأشباح الساكنة في نفوسكم لتترككم وحدكم في جوف الظلام الذي صبغتم به المدينة لعقود.
ثم جاءت سيارة سوداء وقفت أمامهم، ونزل منها رجلان، أمرهما الرجل الضخم بأخذ الشاب وحبسه في قبور الأحياء المظلمة، وهو يقول له: ذلك جزاء كل مَن تجرأ وحاول أن يُضيء ظلام المدينة بنور باهت ضعيف ومتوهم، إن الناس في تلك المدينة قد عشقوا الظلام أيها الشاب المتمرد ولن يخرجوا منه إلا انتقالا لظلام آخر أبدي، فقال له الشاب كلمة أخيرة: راقب شقوق الجدران في المدينة جيدا فمنها سيخرج النور ويبدد ظلامكم المصطنع، وبطرف عينه لمح الشاب اللافتة الصغيرة التي كانت تتدلى من عصا الرجل الأول مكتوب عليها: لا تلتفت فالمحسن الكبير يراقبك.