شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكراتي – أسطورة هيكل

قرأتُ كثيرًا للكاتب الكبير الراحل جلال كشك، وقرأتُ أيضًا للصديق العزيز د. محمد مورو، مؤلفاتهما في نقد محمد حسنين هيكل.

وسمعتُ أيضًا من أستاذي الكبير مصطفى أمين، رحمه الله، روايات وحكايات لم تُنشر عن هيكل، وعن علاقته بما تعرّض له مصطفى وعلي أمين من تنكيل وتلفيق وقهر، كان نتيجته أن قضى مصطفى أمين ما يقارب عقدًا من الزمان بين جدران السجن، بينما كان هيكل نفسه يومًا ما يعمل تحت إمرتهما في “أخبار اليوم”.

ربما أكون رأيت الأستاذ هيكل لمرة واحدة فقط، كانت أثناء قرارات سبتمبر 1981. لم يكن لقائي به أكثر من نظرة عابرة، ولا كانت لدي يومًا أسباب كافية للانبهار أو حتى الإعجاب. نعم كان اسمه كبيرًا، لكن أثره في وجداني كان باهتًا، كظلٍّ يعبر الحائط دون أن يترك حرارة أو صدى.

ومع هذا، عندما قررتُ خوض الانتخابات الرئاسية عام 2005، لم أستطع مقاومة إلحاح بعض الأصدقاء والزملاء في زيارته. لم تكن لدي رغبة أصيلة، ولم تكن لديه أي رغبة. ربما – عن حكمة أو حذر – آثر أن لا يجر على رأسه متاعب من زيارة مرشح لا ترضى عنه السلطة. وهكذا، أُغلق باب اللقاء قبل أن يُفتح، بدعوى ترتيبات المواعيد.

ومنذ سنوات، طالعت كتابًا بالغ الأهمية بعنوان “تفكيك هيكل”، للمؤرخ العراقي د. سيار الجميل. وقد أعدت قراءته مؤخرًا أثناء وجودي في بيروت، فأعادني الكتاب إلى صميم الأسئلة التي ما فتئت تؤرقني عن هيكل: مَن يكتب التاريخ؟ ولِمَن؟ وبأي ضمير؟

الكتاب لا يهاجم هيكل كصحفي، بل يُحاكمه كمؤرخٍ يتساند على وثائق لم تُنشر، وسرديات لم تُراجع، وروايات قُدّمت بلهجة المتفرِّج وهو في الحقيقة جزء من المشهد، بل من صانعيه. الجريمة – كما يراها الجميل – ليست في القلم، بل في نَسَبِ الحقائق إلى الذات، وفي استخدام الوثيقة كأداة للزينة السياسية، لا كأداة للبحث والصدق.

ينقض الجميل أبرز مزاعم هيكل، ومنها ادّعاؤه أنه حاور ألبرت أينشتاين، حوارًا لم يجد له الجميل أثرًا في أي سجل، ولا في أية وثيقة. ويتهمه باستخدام مصادر صهيونية وأميركية دون تمحيص، رغم ترويج هيكل الدائم لفكرة القومية والتحرر.

ينتقده كذلك لامتلاكه وثائق لم يسلمها لدار الوثائق المصرية، ولعدم ذكر مصادره أو توثيقها، وهي أبجديات أي كتابة جادة. بل يرى الجميل أن هيكل صاغ صورةً مثالية عن نفسه، وعن الحقبة الناصرية، مستخدمًا نفوذه لا كراوٍ للوقائع، بل كمُخرج لرواية كاملة بعنوان: “أنا كنت هناك”.

كتاب “تفكيك هيكل” ليس ترفًا أكاديميًا، بل محاولة جريئة لإعادة الاعتبار للعقل النقدي في مواجهة أسطرة الإعلامي الذي تحوّل إلى مرآة السلطة. وهو كتاب يَكشف لا عن سيرة رجل، بل عن هشاشة زمنٍ كاملٍ آثر فيه الناس التصفيق على التساؤل.

ولعل صمت هيكل عن هذا الكتاب كان أبلغ ردٍّ منه، أو ربما كان هروبًا ممن لم يُجِد التعامل مع النقد، حين يأتيه لا من خصم سياسي، بل من مؤرخ يدق جدران صمته بالمطرقة لا بالقلم.

هكذا قرأتُ “تفكيك هيكل” لا كقضية ضد رجل، بل كمرافعة ضد نمطٍ من الكتابة والسياسة والتاريخ… ضد أن نُصدّق كل من يكتب، فقط لأنه كتب. وضد أن نُسلّم لمن روى، فقط لأنه اقترب من النار، وعاد بشيء من الدخان.

قد يكون هيكل عبقريًّا في إدارة الكلمة، لكنه كان شريكًا في إدارة مشهدٍ يحتاج منا – بعد كل هذه السنين – إلى مراجعة لا مجاملة، وإلى نقد لا تقديس.

فالتاريخ، لا يُكتَب بالحب وحده، ولا بالهيبة، بل بالحقيقة، والحقيقة وحدها هي التي لا تموت.

.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى