حقوق وحرياتملفات وتقارير

الزنازين تُكمم الأفواه والجلادون يحكمون قبضة بيا داخل كوندينغي بالكاميرون

أوضح مراقبون أن سجن كوندينغي في قلب العاصمة الكاميرونية ياوندي لم يعد مجرد منشأة عقابية، بل تحوَّل إلى وكر تعذيب منظَّم ومحرقة سياسية مكتملة الأركان، تُمارس فيه أبشع صور التنكيل بحق كل من تُسول له نفسه معارضة الحاكم العجوز بول بيا، الذي بلغ من العمر 92 عامًا ولا يزال يتمسّك بالحكم بقبضة من حديد ونار.

أكد شهود عيان أن مشهد الزوار وهم يعانقون ذويهم في فناء السجن، بينما تُعرض أفلام نوليودية مدبلجة إلى الفرنسية، لا يعكس مطلقًا حقيقة ما يجري خلف الأسوار؛ حيث تُسحق الكرامة، ويُدفن القانون، وتُمارس الدولة أبشع أنماط البطش باسم “محاربة الإرهاب”.

أعلن حقوقيون أن قانون مكافحة الإرهاب، الذي فُرض عام 2014، فتح أبواب الجحيم، إذ سمح بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية تفتقر إلى أدنى ضمانات العدالة، وأدى إلى الزج بآلاف الأبرياء في كوندينغي دون محاكمة، بعضهم قضى سنوات داخل الزنازين بسبب مخالفات تافهة، كعدم إبراز بطاقة هوية، وهي تهمة لا تتجاوز عقوبتها في القانون عامًا واحدًا، بينما حُبس المتهم بها ست سنوات كاملة دون محاكمة.

صرح زعيم المعارضة موريس كامتو، الذي اعتُقل لتسعة أشهر عام 2018 إثر احتجاجات على نتائج الانتخابات، بأن “النظام الكاميروني يؤمن أن السجن هو حل شامل، لكن حتى الموت لا يحل شيئًا، فالأفكار لا تُسجن”. ويقبع معه العشرات من أنصار حزب الحركة من أجل نهضة الكاميرون، الذين لم يُقدَّموا إلى محاكمات عادلة حتى الآن.

زعم عبد الكريم علي، ناشط السلام المعروف في المناطق الناطقة بالإنجليزية، أنه اختُطف عام 2022 على يد جنود من النخبة، بينما كان ينقل والدته المريضة إلى المستشفى، بعد أيام من اتهامه أحد الجنود بارتكاب جرائم حرب في بوييا. وقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في أبريل 2025 بتهمة “العداء للوطن” و”الانفصال”، رغم مشاركته سابقًا في عملية وساطة سويسرية برعاية رسمية.

أوضح علي أن محاكمته جرت بلغة فرنسية لا يفهمها، ووصف ذلك بأنه “ممارسة استعمارية قذرة تعيد إنتاج الظلم القديم تحت ستار القانون الحديث”، وأضاف: “الاختطاف، التعذيب، المحاكمات العسكرية، كلها أدوات لإسكاتنا ودفننا أحياء”.

أفاد وزير العدل لوران إيسو في أكتوبر 2024 أن سجن كوندينغي، الذي بُني عام 1967 لاستيعاب 1,500 شخص، بات يحتجز ما يزيد عن 9,000 معتقل، في ظروف مزرية لا تليق بالحيوانات. حيث يُجبر الزوار على دفع 1,000 فرنك إفريقي (1.30 جنيه إسترليني) لحفظ هواتفهم، وتُموَّل المرافق الأساسية من أموال السجناء أنفسهم. أما من لا يملك عونًا خارجيًا، فيعيش على وجبة واحدة في اليوم، وينام في العراء كالمشردين.

أكد سجناء سابقون أن أعمال شغب اندلعت عام 2019 احتجاجًا على الأوضاع اللا آدمية، وقد أُضرمت النيران في أقسام من السجن، ثم اختُطف المئات ونُقلوا إلى أماكن غير معلومة، دون أي تواصل مع ذويهم أو محاميهم، في انتهاك صريح لكل القوانين.

أعلن محامو ستة أكاديميين أنهم تعرّضوا للاختطاف من فندق في أبوجا بنيجيريا عام 2018، واحتُجزوا 20 يومًا في زنازين تحت الأرض، قبل أن يُرحَّلوا بطائرة عسكرية إلى الكاميرون، ويُحاكموا عسكريًا خلال الليل دون حضور دفاع، ليُحكم عليهم بالسجن المؤبد بتهم “تمويل الإرهاب” و”المساس بوحدة الدولة”، بينما كان ذنبهم الحقيقي إعلان استقلال “جمهورية أمبازونيا” في 1 أكتوبر 2017.

استرسل سيسيكو أيوك تابيه، أول رئيس لجمهورية أمبازونيا، في الحديث من زنزانته قائلًا: “لسنا عسكريين، بل أساتذة جامعات ومهندسون. ومع ذلك، حوكمنا محاكمات عسكرية كأننا خونة… نحن قرابين لنظام لا يؤمن إلا بالبطش”. وأضاف بابتسامة ثابتة: “نحن نعرف ماضينا الملطخ بالقمع، ونعرف حاضرنا المسجون… لكن الغموض كله يكمن في عقل بيا”.

أردف عبد الكريم علي قائلًا إن الأحكام القاسية التي تُصدر الآن ليست عبثًا، بل “حسابات رعب مدروسة لإسكات المعارضة قبل انتخابات أكتوبر”. وأضاف: “النظام لا يرى في خصومه مواطنين، بل مسامير يجب دقها بمطرقة الجلاد”.

كشف التاريخ أن جذور القمع أعمق من بيا نفسه، إذ يقع على جزيرة منسية قرب دوالا سجن مانوكا، الذي استخدمه الاستعمار الألماني لسجن المناضلين، قبل أن يتخلى عنه عقب الحرب العالمية الأولى. ورغم انهيار الاستعمار، لم ينهر القمع، بل استمر وتطوَّر وتعمَّق حتى أصبح سجن كوندينغي مرآة للوحش الذي يرتدي بدلة الدولة.

بهذا الواقع المُر، لا يبقى كوندينغي سجنًا، بل يصبح دولة موازية تُديرها منظومة جهنمية من الجلادين، تحكم على الفكرة بالإعدام، وتُحاكم المواطن بلغة لا يفهمها، وتُطفئ أي بصيص للحرية بحفنة من الأحكام العسكرية… وكل هذا باسم القانون.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى