
في وقتٍ تتصاعد فيه التحديات وتزداد حاجة الناس إلى من يسعى لحاجتهم، يبقى الخلط بين العمل الخدمي والسياسي من أخطر الإشكاليات التي تهدد الثقة في كل من يشتغل بالشأن العام.
فما أن يبدأ أحدهم في مساعدة الناس أو إطلاق مبادرة تطوعية، حتى يُتّهم بأنه يسوّق لنفسه سياسيًا
وما أن يترشح آخر لمنصب عام، حتى يُسأل: وأنت فين من خدمة الناس؟
المفارقة أن هذا الخلط، وإن بدا في ظاهره عابرًا، إلا أنه يعكس تشوشًا حقيقيًا في الوعي العام، ويكشف عن فراغ طويل المدى في التربية السياسية والمجتمعية على السواء.
فالعمل الخدمي ببساطة هو كل جهد يُبذل لتلبية احتياجات الناس اليومية، أو تخفيف آلامهم، أو تحسين حياتهم بشكل مباشر. وغالبًا ما يتم هذا النوع من العمل بشكل تطوعي ودون مقابل مادي، ويمثّل في جوهره انحيازًا للناس لا للمناصب.
لذلك يُعتبر العمل العام فعلًا إنسانيًا في المقام الأول، يبدأ من دوافع داخلية، وينتهي بأثر ملموس في الواقع وفي حياة الناس.
أما العمل السياسي، فهو على النقيض، يسعى للتأثير في السياسات العامة أو المشاركة في الحكم أو تغيير موازين القوى من خلال الانتخابات والبرامج والتحالفات. وهو مشروع للتأثير من أعلى، عبر أدوات كالتشريع والإدارة، لا عبر المساعدات أو القوافل.
من يخوض غمار العمل المجتمعي ينزل إلى الميدان ويُخاطب الإنسان
يلامس احتياجات الناس اليومية
يشتبك مع الواقع بكل ما فيه من نقص ووجع
يكفيه ضمير حيّ وقدر من الإخلاص
ويُحاسب في عيون الناس وعلى أرض التجربة
أما من يسلك المسار السياسي
فيسعى للتأثير في السياسات العامة
يوجّه القرار ويشارك في صناعة المستقبل
يعمل من خلال أدوات رسمية كالتشريع والإدارة والتحالفات
يُخاطب الدولة ويحتاج سلطة وقدرة تنفيذية
ويُحاسب في قاعات البرلمان
وعندما تختلط الأدوار يضيع التقييم، ويصبح الصادق موضع شبهة، والمزيّف نجمًا يُصفَّق له
متى يحدث الخلط؟
يبدأ الخلط حين يتحول العمل الخدمي إلى وسيلة دعائية لا غاية إنسانية
وحين يبدأ بعض السياسيين في ارتداء عباءة خادم الناس فقط أثناء الحملات الانتخابية
أو حين يُطلب من كل من يخدم الناس أن يعلن موقفًا سياسيًا علنيًا حتى يُقبَل منه فعله
وفي المقابل، لا يُعفى العاملون في المجال الخدمي من مسؤولية توضيح حدود أدوارهم، وأن يكون خطابهم خاليًا من التلميحات السياسية المغلّفة
العمل الخدمي والسياسي كلاهما ضروريان، لكن لا بد أن تُرسَم الحدود الفاصلة بينهما
فالخدمي لا ينبغي أن يتحوّل إلى سلم دعائي للسياسي
ولا يجوز للسياسي أن يتوارى خلف لافتة الخدمة حين يتخلى عن مسؤوليته
وفي لحظة انهيار الثقة العامة، تبقى الشفافية والوضوح والإخلاص هي صمامات الأمان الوحيدة التي تحفظ للناس احترامهم، وتحمي الفكرة من التشويه