مقالات وآراء

الدكتور عدنان منصور يكتب: أفيقوا أيها اللبنانيّون من سباتكم العميق!

إلى كلّ الذين يعوّلون على الولايات المتحدة ورئيسها الهائج، إلى كلّ القادة اللبنانيين، والمسؤولين، والسياسيين، وزعماء الطوائف، والأحزاب، والناشطين، وشرائح أبناء الشعب، نطلق الصيحة بصوت عالٍ، ونقول لكم: إنّ الأميركي الذي تعتمدون عليه، لا يكنّ أيّ اعتبار لكم، ولوطنكم، وسيادتكم، وشعبكم، وأرضكم، ووجودكم!
توم برّاك، المبعوث الأميركيّ إليكم، لا يمثل إلا الوجه الأسود لأقبح وأحطّ سياسة خارجيّة حيال الدول المستضعفة، تتبعها دولة عظمى جسّدت في داخلها أقذر سياسات الاستعمار القديم والجديد، وأكثرها نفاقاً، وظلماً، واستبداداً، وقهراً، وغدراً.
في كلماته المقتضبة، اختزل برّاك دولة مستقلة، غير عابئ بحكام لبنان وشعبه، ولا بالذين ارتموا في أحضان واشنطن، وراهنوا عليها، واستنجدوا بها، واعتبروها «المخلّص» العتيد، و»الوسيط النزيه»، وهي التي لا تعرف إلا مصالحها، وإنْ أدّى ذلك إلى سحق دول، وإلحاق القهر، والفقر، والاستبداد، والجوع بشعوبها.
متى يدرك اللبنانيون، كلّ اللبنانيين، لينهضوا، وينتفضوا بقادتهم، وأحزابهم، وطوائفهم، وقواعدهم الشعبيّة، وهم أمام خطر يهدّد وجودهم في الصميم، ويضعهم أمام تحدّ كبير، واستحقاق مصيريّ، جراء ما تحضره وتبيّته كلّ من واشنطن وتل أبيب، وعملاؤهما في المنطقة للبنان واللبنانيّين؟!
بريطانيا بلفور، بسياستها القذرة، ووعدها المشؤوم، وإرثها اللاأخلاقي، واللاإنساني اختزلت عام 1917 فلسطين وشعبها، لحين أن شهد العالم العربي نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948! وعد بريطانيّ جاء بعد اتفاق السيّئي الذكر سايكس وبيكو عام 1916، الذي قسّم دول المشرق بين الدولتين الاستعماريّتين، بريطانيا وفرنسا، ورسم حدودها.
ها هي الولايات المتحدة بعد مئة عام بقليل تريد أن تعيد رسم خريطة جديدة لدول المنطقة التي تصوّب عليها منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، بما يخدم أهدافها الاقتصاديّة، والطاقويّة، والأمنيّة، والاستراتيجيّة، ويلبّي أهداف «إسرائيل»، ومطامعها التوسعية!
مَن يستعرض سياسات الولايات المتحدة وتدخلها السافر في العديد من دول العالم، يجد أنّ الحلّ السياسيّ الذي نفذته على دولة ما، لم يترك وراءه إلا الفوضى، والانقسامات، والخلافات، والأحقاد بين الشعب الواحد. إذ لا يهمّ الولايات المتحدة، من يحكم الدول، ولا يهمّها نوع أنظمتها، أكانت ديمقراطية أو دكتاتورية، أو عائلية، أو أوتوقراطية، أو ثيوقراطية، طالما أنّ حكامها يسيرون في الفلك الأميركي.
في كلّ بلد تدخلت فيه الولايات المتحدة، غرق لاحقاً في الفوضى العارمة، لتتركه بعد ذلك عن عمد، يتخبّط في حالة من عدم الاستقرار السياسي، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والمعيشية، والمالية فيه! أنظروا إلى أفغانستان، والصومال، واليمن، وليبيا، والسودان، والعراق، ولبنان، وسورية! هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق قال يوماً: «ليس من صالح الولايات المتحدة أن تحلّ مشكلة في العالم. من صالحها أن تمسك بخيوط المشكلة، وتدير هذه الخيوط وفق مصالحها الأمنية والاستراتيجية».
للبنانيين نقول: اعلموا أنّ خيوط المشكلة في لبنان يمسكها الأميركي، لكن ليس لحلها، وإنما ليديرها وفق المصالح الأمنية والاستراتيجية لواشنطن وتل أبيب! لا يهمّ الولايات المتحدة و»إسرائيل» إنْ بقي لبنان أو قسّم، أو أزيل عن خريطته السياسية! ألم تقسّم بولندا قبيل بداية الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية عملاً باتفاقية مولوتوف – ريبنتروب السرية عام 1939، التي بموجبها احتلّ السوفيات ثلث أراضي بولندا، والألمان الثلثين الباقيين.
ألم تختفِ بولندا عن الخريطة السياسية لأوروبا بسبب ثلاثة تقسيمات متتالية أعوام 1772، و1793، و1795؟!
ألم تسلخ الولايات المتحدة عام 1904 مقاطعة بنما عن كولومبيا، لتعترف بها كدولة مستقلة، ما أتاح لواشنطن في ما بعد التحكّم بها، والسيطرة على قناة بنما؟!
هل يتوهّم اللبنانيون في هذا الظرف الحرج الذي يتقرّر فيه مصيرهم، أنّ واشنطن حريصة على لبنان، دولة، وسيادة، وأرضاً، وشعباً؟! هل يدرك اللبنانيون حقاً، وهم في مستنقع خلافاتهم، وتناحرهم ونكاياتهم، واستخفافهم بما يُحاك ضدّهم، أنهم جميعاً مستهدفون، وأنّ حلّ المشاكل الشائكة، والتسويات الكبرى، لا تتمّ إلا على حساب الضعفاء، والمغفلين، والمشرذمين، والمنقسمين على أنفسهم، الباحثين وهماً عن مصالحهم ومصالح وطنهم في أحضان الأميركان! لا تدعوا سايكس بيكو يتجدّد ويتكرّر على يد ترامب – نتنياهو، كلاهما يجسّدان مفهوم التسلط، والعنجهية، والاستبداد، والسيطرة، والاستغلال، مفهوم مبني على استخدام القوة الغاشمة، وسياسة الإكراه والابتزاز، والتسويف، وإنً أدى ذلك إلى تقسيم الدول، وقتل شعوبها، وتشتيتها، وتهجيرها ومحوها من على خريطتها الجغرافية والسياسية والديموغرافية!
إنّ الدولة اللبنانية بكلّ قياداتها وشعبها، وطوائفها، مدعوة اليوم، كي تقف وقفتها التاريخية بكلّ جرأة ومسؤولية وطنية عالية، لاتخاذ قرار شجاع، وأن تهبّ هبة رجل واحد للوقوف في وجه المؤامرة الكبرى لإجهاضها، والتي يبشر بها ويمهّد لها المبعوث الأميركي بكلّ خبث ووقاحة، غير مكترث مطلقاً بوجود لبنان ودولته، وسيادته، وغير مبال بقياداته وأحزابه وشعبه.
لو كانت الولايات المتحدة تتصف فعلاً بالنزاهة، والصدقية، والأخلاقية، لأعلنت على الملأ أنها حريصة على سيادة لبنان وشعبه، وأنها لن تسمح مطلقاً بالاعتداء على لبنان، أو تغيير هويته، وحدوده، أو سلخ أجزاء منه وضمّها للآخرين.
الدولة والزعماء والشعب اللبناني برمّتهم أمام مسؤوليتهم الوطنية والتاريخية، فلا مجال أمامهم بعد الآن، تجاهل ما يخطط للبنان، أو استمرارهم في تراشقهم السياسي، وسجالاتهم العقيمة، وخلافاتهم الداخلية المدمّرة، إذ انّ الحفاظ على وجود لبنان وبقاء شعبه مسؤولية الجميع دون استثناء، لأنّ الأميركي والإسرائيلي كلاهما يريدان معاً ترسيم الشرق الأوسط الجديد انطلاقاً من لبنان وسورية، برعاية أميركية كلية، حتى يصبّ الترسيم الجديد للبلدين في خدمة ومصالح واشنطن، وتل أبيب وأنقرة، ويمهّد في ما بعد، إلى تعديل وترسيم حدود الدول الأخرى في المنطقة، ووضعها على مشرحة التقسيم، وإنْ كانت تدور في الفلك الأميركي!
«إذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام»، جملة متفجّرة قالها برّاك ومشى، دون أن يوضح ما تخبّئه واشنطن للبنان. هل الولايات المتحدة خيال المآتة في هذا الشرق حتى يترك لبنان للعودة القسرية إلى بلاد الشام؟! وهل هذا سيتمّ بفعل فاعل، بعيدة عنه الولايات المتحدة كلّ البعد؟! وهل يحصل هذا دون موافقة ومباركة مسبقة، مشبعة بالخبث، والتواطؤ، والنفاق، والخداع من قبل الإمبراطورية المستبدة، التي نصّبت نفسها زوراً على العالم، كحامية لسيادة الدول، وحرية شعوبها، وحقوقها، وتقرير مصيرها؟!
الدولة اللبنانية برئيس جمهوريتها، وحكومتها، ومجلس نوابها وشعبها على المحك، وهم جميعاً أمام الله والتاريخ. هل يجرؤ حكام لبنان، على رفع الصوت عالياً في وجه القرصان العالمي، ويتوحّدوا كي يحبطوا ما يهدّد وجودهم، وأرضهم، وحتى لا يشهد لبنان مأساة نكبة كبرى كمأساة نكبة فلسطين!
الولايات المتحدة تريد ابتزاز لبنان وتخيّره بين اثنين: إما الاعتراف بـ «إسرائيل» والتطبيع الكامل معها، دون قيد أو شرط، وإما البديل بإزالة لبنان عن الخريطة السياسيّة للمنطقة، وضمّه إلى مَن ترعاهم واشنطن، وترعرعوا في أحضانها!
إلى كل الذين عاهدوا واشنطن وراهنوا عليها، واعتمدوا على سياساتها، و»صدقيّتها» و»غيرتها» عليهم وعلى لبنان، علهم يتّعظون من كلام توم برّاك، الذي لخص موقف الولايات المتحدة المستقبلي من لبنان، بكلمات تهزّهم هزاً، وتهزّ معهم «السيادة» التي يتبجّحون بها ليلاً ونهاراً.
ترى ماذا هم فاعلون حيال واشنطن حتى لا يتحوّل كلّ لبنان إلى حائط مبكى تذرف عليه دموع الخانعين، المتخاذلين، وما هو خيارهم بعد اليوم؟! أبالقبول بشروط الأمر الواقع الأميركي – الاسرائيلي، أم بالنحيب على حائط البيت الأبيض الأميركي، أم بالوقوف وقفة رجل واحد يستميت في الدفاع عن الوطن النهائي لأبنائه، وإحباط المؤامرة الكبرى، وإنقاذ وطن من براثن المحتلين !
كلام براك. يؤكد مرة أخرى، أنّ الدبلوماسية لا تكفي وحدها لتحرير لبنان من المحتلين، ومواجهة ما يُحاك من مشاريع تقوّض وجوده، دون قوة السلاح التي يجب أن تكون في قبضة جيش، ومقاومة شعب لتحرير الأرض، ومواجهة المعتدين، وإحباط مشاريعهم المدمّرة بحق لبنان ووجوده.

المصدر: جريدة البناء

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى