قضية “التآمر 2”: تفاصيل حصرية لجلسات محاكمة سياسيّة

أصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصة بالنظر في القضايا الإرهابية،
يوم 8 جويلية 2025، أحكامها في ما عُرف بقضية “التآمر 2” التي شملت شخصيّات سياسيّة بارزة وقيادات أمنية سابقة. تراوحت الأحكام بين عدم سماع الدعوى للمتهم الوحيد المحال بحالة سراح، صاحب الأعمال رضا العياري، و12 سنة سجنا في حقّ المتهمين الذين حضروا الجلسات عن بُعد، ومن بينهم رئيس بلدية الزهراء ريان الحمزاوي، و14 سنة في حقّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي قرّر مقاطعتها، و35 سنة ضدّ من حوكموا في حالة فرار، ومن بينهم مديرة ديوان الرئيس قيس سعيّد السابقة نادية عكاشة، باستثناء رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد الذي طعن محاموه بالتعقيب في قرار دائرة الاتهام.
وفي إطار متابعتها المستمرّة للمحاكمات السياسيّة، تُخصّص المفكرة القانونية هذا المقال لتسليط الضوء على جلسات “قضية التآمر 2″، والتي تتخذ بدورها طابعًا سياسيًا واضحًا بالنظر إلى هوية المتهمين فيها والتهم الموجهة إليهم. وقد عرفت هذه القضية، شأنها شأن “قضية التآمر1 “، إصدار قرار بمحاكمة المتهمين عن بُعد، وهو ما سبق أن اعتبرته المفكرة إجراءً تعسفيا وانتهاكًا صريحًا لمبادئ المحاكمة العادلة. إنّ توثيق هذه المحاكمات التي تخضع إما لحجب إعلامي أو لتوجيه خدمة سردية معيّنة، من شأنه ليس فقط أن يُوفّر مرآة لما بلغته وضعية استقلال القضاء وضمانات المحاكمة العادلة في تونس، ولكن أيضا أن يساهم في التأريخ للمرحلة السياسيّة التي تعيشها البلاد.
مؤامرة أخرى مبنية على وشاية مجهول
تتعلّق هذه القضية بواحد وعشرين متهمًا، من بينهم إلى جانب الشخصيات السياسية السابق ذكرها، قياديون بارزون حاليون أو سابقون في حركة النهضة، بعضهم موقوفون في قضايا متنوعة مثل الحبيب اللوز وسمير الحناشي (شغل خطة مستشار أمني سابق برئاسة الحكومة بين 2011 و2014)، وآخرون بحالة فرار وهم معاذ الخريجي، ورفيق بوشلاكة، ولطفي زيتون وعادل الدعداع. كما تشمل لائحة الاتهام صحفيين مثل شهرزاد عكاشة وماهر زيد، وصاحب الأعمال رفيق يحيى (ثلاثتهم بحالة فرار)،
وعددًا من القيادات الأمنية على غرار كمال بن البدوي (رائد متقاعد بالجيش الوطني، قضى عقوبة 11 سنة على خلفية قضية براكة الساحل)، ومحرز الزواري (مدير عام أسبق للمصالح المختصة في وزارة الداخلية)، وعبد الكريم العبيدي (شغل خطة رئيس فرقة حماية الطيران، وأحيل على التقاعد الوجوبي سنة 2021)، وفتحي البلدي (عمل في إدارة الحدود والأجانب،
وتمت إحالته على التقاعد الوجوبي في 2021) جميعهم بحالة إيقاف، وكمال القيزاني (المدير السابق للأمن الوطني والمدير العام لمخابرات وزارة الداخلية)، وعبد القادر فرحات (مدير عام الشرطة العدليّة السابق)، بحالة فرار، بالإضافة إلى مصطفى خذر (حكم عليه في ماي الماضي بـ 48 سنة سجنا في ما عُرف بقضية”الجهاز السرّي”).
على غرار قضية التآمر الأولى، انطلقت هذه القضية بشهادة شاهد محجوب الهويّة -لحقتها شهادات أخرى لأمنيين أساسا، إحداها محجوبة الهوية، لم يكن لها تأثير في البحث. أدلَى الواشي الرئيسي بوجود وفاق أمنيّ الغرض منه تبديل هيئة الدولة، يترأّسه راشد الغنوشي بالتنسيق مع كمال بن البدوي بوصفه “الرئيس الفعلي للجهاز السرّي لحركة النهضة”.
وقد زعم الواشي أنّ بن البدوي استقطب جملةً من الأمنيين لاختراق وزارة الداخلية وزعزعة أوضاع البلاد، وأنّه كلّف ماهر زيد بالاتصال بريّان الحمزاوي حتى يُمكّنه من الاطّلاع على تحركات رئيس الجمهورية التي يتحصّل عليها بدوره من نادية عكاشة المديرة السابقة للديوان الرئاسي، نظرا لكونهما يسكنان في نفس المنطقة. وذكر كمثال على ذلك “حادثة الجامع”، حين “تهجّم أحد الملتحين” على الرئيس قيس سعيد في أحد الجوامع في حيّ التضامن.
وعلى هذا الأساس، تمّ توجيه تهمة تكوين وفاق ذي علاقة بالجرائم الإرهابية والتحريض بأيّ وسيلة على ارتكاب جرائم وتكوين وفاق بقصد الاعتداء على الأملاك والأشخاص والتآمر على أمن الدولة الداخلي، ومحاولة الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة طبق الفصول 5 جديد و13 جديد و14 و32 و40 من قانون مكافحة الإرهاب، والفصول 59 و68 و69 و72 و131 و132 من المجلة الجزائية،
وذلك في حق كمال بن البدوي وراشد الغنوشي. كما تمّ توجيه تهمة الانضمام إلى الوفاق وبقية التهم المذكورة سابقا في حق ريّان الحمزاوي وعبد الكريم العبيدي والحبيب اللوز والفتحي البلدي ومحرز الزواري وسمير الحناشي ورضا العياري. ووجهت نفس التهم المنسوبة لراشد الغنوشي وكمال بن البدوي إلى مجموعة المتهمين المحالين في حالة فرار، مع إضافة تهم الفصول 1 و 3 و10 35 و37 والفصول من 92 الى 97 من قانون مكافحة الإرهاب والفصول 32 و61 و62 و67 و70 و72 من المجلة الجزائية.
الجلسة الأولى: التشكيك بمقوّمات المحاكمة العادلة
على خلاف ما شهدته جلسات “قضية التآمر عدد 1” من حشود إعلامية ومواكبة سياسية وأمنية لافتة أمام المحكمة، بدَت الأجواء صباح 6 ماي أشبه بمشهد صامت. ففيما عدا بعض الصحفيين الذين وقفوا خارج أسوار المحكمة يترصّدون أعضاء هيئات الدّفاع، وبعض أفراد عائلات الموقوفين لم يُسَجَّل حضور يُذكر أمام مقرّ المحكمة الابتدائية بتونس.
أمام القاعة عدد 6، المشهد نفسه يتكرّر. اقتصر الحضور على المحامين وثلاث صحفيات سُمح لهن بالتغطية، يمثّلن جرائد الشروق، والصباح، والصحافة. مشهد يوحي بأن القضية، رغم ثقل لائحة الاتّهام وأسماء المتهمين، تجري على هامش المشهد الإعلامي والسياسي.
داخل قاعة الجلسة، دَقّ الجرس في العاشرة صباحًا إيذانًا بدخول هيئة المحكمة. شرع رئيس الدائرة فورًا في المناداة على الملفات المقرّرة في نفس الجلسة. غير أنّ جلّ القضايا أُجّلت. يُنادي الرئيس على القضية، ويؤكّد بصرامة أنه يُمنَع منعًا باتا تصوير المحكمة وهيئتها أو تسجيل مرافعات المحامين، وأنّ ذلك يجعلهم تحت طائلة العقاب. في موازاة ذلك، يُحدق بعض الأمنيين الحاضرين في الجلسة في اتجاه الحضور، حتى المحامين منهم، للتثبت مما إذا كان هناك شخص بصدد التسجيل. في الأثناء، المتهم الوحيد الذي يّحاكم حضوريّا في قاعة الجلسة هو رضا العياري، الذي يمثل في حالة سراح.
تنطلق الشاشة من غرفة البثّ عن بعد في سجن المرناقية، ليقف كلّ من ريّان الحمزاوي، ومحرز الزواري، وعبد الكريم العبيدي وسمير الحناشي. يقف بجانبهم برداء المحاماة من داخل السجن المحامي محمد عيّاد عضو هيئة الدفاع عن الحمزاوي. يطلب عيّاد الكلمة مؤكّدا أنّ منوّبه يرى الهيئة دون المحكمة والمحامين، ولا يسمع كلّ ما يُقال بقاعة الجلسة. ويستنكر منعه من استعمال هاتفه الجوال ولوحته الرقمية التي تتضمن أوراقا من الملف، وهو ما اعتبره هضما لحقّ الدفاع، مُعلنا انسحابه من غرفة البث والتحاقه بقاعة المحكمة في باب بنات.
تتدخل المحامية نادية الشواشي مشيرةً إلى أن الصوت من قاعة الجلسة لا يصل إلى مُنوّبها. ويستنكر المحامي محمد علي بوشيبة قرار المحاكمة عن بعد، مُذكّرا بأن هذا الشكل من المحاكمة تَمّ العمل به خلال جائحة كورونا، وهو مشروط بالخطر الملمّ، والحال أن قرار المحكمة في هذا الصدد لم يكن مُعلّلاً. يتناوب بقية المحامين على الدفع بعدم شرعية قرار المحاكمة عن بعد، من منطلقات