شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكّراتي… ١٠٠ شخصية تاريخية ومعاصرة في المركز الثقافي المصري بإسطنبول

لماذا نستحضر الهوية في زمن تغييب الانتماء والقوة الناعمة؟

قبل ثلاثين عامًا، وتحديدًا سنة ١٩٩٥، كنت ألقي محاضرة في كلية البنات بمصر الجديدة،
وحين أنهيت حديثي، سألت الطالبات إن كانت بينهن من تسكن دائرتي الانتخابية في باب الشعرية.


لم يرفع أحدٌ يده. خرجتُ من المدرج، وتقدّمت مني بعض الطالبات خلسة، وهمسن: “نحن من باب الشعرية…”. سألت إحداهن: “ولِمَ لم تُجبن علنًا؟”
جاءت الإجابة كصفعة مؤلمة: “نخجل أن نقول إننا من باب الشعرية… ندّعي أننا من مصر الجديدة أو الظاهر.


تلك المناطق على الأقل فيها قاعات أفراح ونوادٍ. في باب الشعرية، لا شيء إلا الفقر. نقيم أعراسنا فوق الأسطح،
ونستقبل الخطّاب في المقاهي، لا في البيوت، لأن منازلنا لا تتسع حتى لأهلها.”

في ذلك اليوم، قررت أن أعيد تشكيل الميدان نفسه.


قررت أن أبحث عن رمزٍ يحمل على كتفيه كرامة الحيّ. لم أجد أصدق من محمد عبد الوهاب، موسيقار الأجيال، الذي وُلد هناك، وعاش وترعرع بين أزقته. لم يكن المشروع تمثالًا له فقط، بل إعادة الاعتبار لمنطقة بأكملها، ولبناتها اللواتي ظنّنَ أن لا رموز لهن.

ذهبتُ لمحافظة القاهرة، وقابلت المحافظ آنذاك، المرحوم عمر عبد الآخر، وطلبت تخصيص قطعة أرض كانت تُستخدم لتجارة الخراف، وتفوح منها روائح تنكّر لها الميدان. حصلت على الأرض، ثم تواصلت مع وزير الإسكان د. محمد إبراهيم سليمان، الذي كلّف “المقاولون العرب” – وكان يرأسها حينها إبراهيم محلب – ببدء البناء.


أطلقنا عليه اسم “مجمع نور الثقافي”، ووافق الوزير على أن أسدد التكاليف بأقساط ربع سنوية قيمتها ٧٥ ألف جنيه.


أذكر أن المهندس محلب كان يحضر بنفسه لاستلام الشيكات.

افتتحنا الميدان، وكشفنا الستار عن تمثال عبد الوهاب، بحضور زوجته السيدة نهلة القدسي، ولفيف من الوزراء، من بينهم فاروق حسني، وعلي الدين هلال، وعبد الرحيم شحاتة. وافتتحنا مجددًا مجمع نور الثقافي، بمكتبته العامة، وقاعاته المجانية للأفراح، وورش الثقافة والفن. صار المجمع ملتقى أسبوعيًا للفنانين والمثقفين والساسة.
باب الشعرية لم تعد حيًّا منسيًّا. صارت تفتخر بأبنائها، وتعرف رموزها.
صارت تلك الطالبات يرفعن رؤوسهن قائلات: “نحن من هناك.”

ثلاثون سنة مرّت. التجربة غادرت مكانها، لكن روحها لم تغادرني.


في إسطنبول اليوم، أرى جيلًا منفيًا، في العشرينات من عمره،
لا يعرف عن مصر إلا ما يحكيه الآباء. لا ذاكرة، لا صور، لا لغة حقيقية، لا صِلة. فقط حنين خام، وارتباك في الانتماء.
من هنا ولدت فكرة المركز الثقافي المصري بإسطنبول.

ليست استعراضًا للتراث، بل مواجهة واعية مع النسيان، وتمسّكًا بالوطن الذي يسكننا وإن غادرناه. لم نؤسّسه بتمويل رسمي، ولا بإذن من جهة، بل بوعي جماعي من أفراد آمنوا أن مصر تستحق أن تُروى… وتُستعاد.

لا يحتمي المركز براية حزب، ولا يرفع لافتة معارضة أو سلطة. يحتمي فقط بتاريخ مصر، وبوجدانها، وبرموزها الذين لم يُسمح لنا أن نُحبهم علنًا في زمن الكراهية الرسمية.

لا نكتفي فيه بصور الفراعنة وجداريات التاريخ، بل نقدّم مصر كما هي: مصر النبي يوسف، والعذراء مريم، وموسى الذي سمع صوت الله على أرضها. مصر الأزهر والكنيسة، عبد الناصر والسادات، أم كلثوم ونجيب محفوظ، المبدع والمنفي، الثائر والمصلح.

لم تُولد مصر من رحم اتفاقيات سايكس-بيكو، بل خرجت من رحم التاريخ، أول دولة عرفها الإنسان. أول حرفٍ كُتب، أول قانون، أول هندسة، أول حضارة نُقشت على جدران المعابد. حتى اسمها ليس صدفة: “مصر” من “مصرايم” ابن نوح، أول ما كُتب بعد الطوفان، وأول ما عُرف بعد الفقد.


ليس صدفة أن يُنسب المال إلى “المصارى”، ولا أن تُذكر في كل كتاب سماوي. لم يمر نبيّ إلا ومرّ بمصر، لا كعابر طريق، بل كمُستقرّ وملاذ. يوسف جاءها عبدًا فصار عزيزًا. موسى خرج منها بحرًا منقسمًا إلى طريقين. عيسى مكث بها سبع سنوات. كل هذا ليس دينًا فحسب، بل جغرافيا وقدرًا وتاريخًا.

هذه ليست مقولات فخرٍ موروثة، بل مسؤولية معاصرة. نحن لا نعيش في ظل التاريخ،

بل نحاول أن نصنع ظلًّا يشبهه… فهل ننجح؟
المركز بدأ العمل علي تجسيد لمئة شخصية مصرية، تاريخية ومعاصرة، عبر تماثيل ومجسمات لرجالٍ ونساءٍ صنعوا معنى لمصر لا يختزل في السلطة، بل في الوعي. والفن والدين والفكر والسياسة منهم من مات منسيًا، أو منفيا من سعد زغلول إلى الاب الذي خطب علي منبر الأزهر في ثوره 1919 منهم مفكرين ومنهم من طورد، ومنهم من لا يزال يصنع معنى الوطن يومًا بيوم.

نُطلق قريبًا معرضًا بعنوان “مصر التي لن تغيب”، نعرض فيه ما خفي من صور ووثائق، وما طُمِس من وجوه. نبدأ أيضًا سلسلة “من النيل إلى البوسفور”؛ أمسيات حوارية يلتقي فيها مثقفون من مصر والعالم العربي في قلب إسطنبول.


نؤسس مدرسة للغة للمقامات والهوية، لأبناء الجالية. ندرّس العربية، ونُعيد الحروف إلى أفواهٍ غابت عنها الأبجدية والانتماء والهوية. ندعم النحاتين، والرسامين، والكتّاب، والفنانين. وسنصدر موقعا باسم “رواق مصر”، تعرف العالم بنا كما نحن، لا كما يُراد لنا أن نبدو.

جمعية الشرق للثقافة والفنون والإعلام ليست مجرد اسم أو رخصة أو مبنى، بل منصة للمقاومة الثقافية.
هذا ليس مشروعًا، بل عهد جديد مع مصر التي لا نريد لها أن تكون ذاكرة، بل وعدًا.
مصر ليست جغرافيا تُرسم، بل ذاكرة تُستعاد. ومَن نسي مصر… نسي نفسه.

المركز الثقافي المصري بإسطنبول هو أوّل حجر في مشروع أكبر، عنوانه: “مصر التي نُحبها… لا مصر التي نُخاف منها.”
وهدفه: استعادة الوطن من يد النسيان، وإعادته إلى قلوب أبنائه، حُرًّا كما كان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى