الدكتور أيمن نور يكتب: “تريبيون” الجديدة .. حين نكسر مرآة الذات ونُحاكي العالم بلُغته

بعد ٤٥ عامًا من الانغماس في مهنة الصحافة والإعلام — لا كوظيفة، بل كحالة وجودية ومسؤولية أخلاقية — يصعب أن أفاجأ، ويستحيل أن أنبهر بسهولة.
لكن ما حدث مؤخرًا مع المجلة البريطانية العريقة “تريبيون” لا يمكن أن يُدرَج ضمن الأخبار العابرة .. بل هو فعلٌ صحفي يتجاوز حدود الورق إلى عصب الوعي الإنساني، وضمير الصحافة العالمية.
نحن لا نتحدث هنا عن استحواذٍ تجاريٍّ بارد، بل عن ولادةٍ فكرية بمخاضٍ مهنيٍّ شريف، وعن انتقال رايةٍ عمرها يقارب القرن، من جيلٍ صاغ مفاهيم العدالة الاجتماعية بلغة الطبقة العاملة البريطانية، إلى جيلٍ يُعيد تعريف هذه العدالة بأصوات الجنوب، والفلسطينيين، والمهاجرين، وأبناء الهامش في عواصم المركز.
بقيادة الإعلامي البريطاني التونسي الأصل، محمد علي حراث، تنتقل “تريبيون” من ضفّة الإيديولوجيا النمطية، إلى ضفافٍ أكثر صدقًا، وأكثر انتماءً لقيم العدالة. رجلٌ لا ينتمي إلى نادي النخبة الصحفية الكلاسيكية، بل إلى هامشٍ ظلّ مهمّشًا، وقرر أخيرًا أن يكتب نصه لا أن يُقرأ عليه نص الآخرين.
حراث لم يأتِ ليرث، بل ليُجدّد. لم يأتِ ليُطعّم النص القديم، بل ليكسره ويعيد بناؤه. لم يأتِ لينقّح خطابًا يتلعثم، بل لينقضه ويعيد صياغته. أعلن منذ الوهلة الأولى أن “فلسطين ليست شأنًا خارجياً”، بل فضيحة أخلاقية داخل مؤسسات الإعلام الغربي. وأن العدالة ليست ضريبة تُحاسب في الميزانية، بل ضمير يُحاسب في وجدان الصحافة.
من فلسطين إلى كشمير، ومن غزّة إلى مانشستر، يرسم محمد علي خريطة جديدة لمعنى أن تكون يساريًا في القرن الحادي والعشرين. ليس يساريًا بالأناشيد، ولا بالبنادق القديمة، بل بالأسئلة الجديدة: من يُهمَّش؟ من يُستثنَى من السردية؟ ومن له حق أن يكون مرئيًا ومسموعًا في زحمة الأكاذيب المصوغة بخبرة احترافية؟
ما تفعله “تريبيون” الآن ليس تطويرًا بل انقلابًا تحريرياً أبيض، لا يتلوّن بلون السلطة، ولا يُغريه لمعان الإعلان. إنها تعيد إلينا جوهر الصحافة: أن تكون سلطة من لا سلطة لهم، وصوتًا لمن لا يُسمح لهم حتى بالهمس.
ولأنني مارست الصحافة ميدانًا وكتابةً، ورأيت الصحف تُباع للمصالح كما تُباع السجائر، وأدركت من داخل المطابع كيف تُقصُّ الحقائق كما تُقصّ الصور، فإنني أقول بلا مواربة: ما فعله حراث في “تريبيون” ليس استحواذًا بل استردادًا .. استردادٌ للمعنى، للرسالة، وللشجاعة التي فقدناها يوم أصبح “الرأي” موظفًا، و”التحليل” تابعًا، و”المعلومة” صفقةً.
حين يتحوّل خطاب المجلة من همٍّ محليٍّ بريطاني إلى قضية أممية إنسانية عابرة للخرائط والجوازات، ويُصبح التحرير أداة مقاومة لا ترتيب جمل، نكون أمام لحظة تستحق أن تُكتب، وأن تُدرّس. دعم مجلس استشاري يضم أسماء من طينة جون تريكت وباسكار سونكارا، وفريق تحريري بقيادة أليكس نيفن، هو صكّ ضمان لا لتقليدية يسار قديم، بل لراديكالية يسار جديد يفهم روح العصر.
الإعلام الذي لا يجرؤ على طرح سؤال فلسطين، ولا يرى في المناخ سوى فقرة طقس، ولا يتناول الاستعمار إلا بوصفه “أرشيفًا”، هو إعلام يكتب شهادة وفاته بيده. و”تريبيون” قررت أن تُبعث من جديد، لا بورقة طُبعت، بل بموقفٍ طُبع في الوجدان.
إننا، نحن أبناء الصحافة العربية، مطالبون أن نتعلم من “تريبيون” كيف نُخاطب العالم بلُغته، لا بلغتنا. أن نكفّ عن ترديد خطب لا يسمعها غيرنا، وأن نخرج من فلك الشعارات إلى مجرّة المعنى. الصحافة ليست حائطًا نكتب عليه آهاتنا، بل منبرًا نُعلن من خلاله وجودنا في وجدان العالم.
ولهذا، أجد نفسي مشدودًا لحلم قديم: أن يكون لنا “تريبيون عربية” .. “تريبيون” مصرية، سودانية، ليبية، مغاربية، تكتب للعالم لا عنه، وتحمل نبضنا لا نبرتنا، وتنقل معاناتنا بلغةٍ يفهمها من في “نيويورك” و”برلين” و”كيب تاون”، لا من في “باب الخلق” و”الحسين”.
تحية لحراث .. لا لأنه امتلك صحيفة، بل لأنه امتلك شجاعة أن يقول لا. وتحية لـ “تريبيون” .. لا لأنها بقيت، بل لأنها تغيرت. وتحية لكل من يؤمن أن الصحافة ليست حيادية، بل انحيازٌ للحق، للضعفاء، وللحقيقة .. مهما كان ثمنها.