مقالات وآراء

شادي العدل يكتب: عندما تغيب التعددية.. يفقد المجتمع روحه

في لحظة تاريخية كان من المفترض أن تشهد انطلاقًا جديدًا للمشروع الثقافي المصري، صدر تشكيل المجلس الأعلى للثقافة الجديد ليثير تساؤلات جوهرية عن مدى تمثيله الحقيقي لنسيج المجتمع المصري المتنوع. فالثقافة – كما نعلم جميعًا – ليست حكرًا على نخبة بعينها، ولا يمكن اختزالها في صوت واحد، بل هي نتاج تفاعل حيوي بين كل مكونات الأمة، أطيافها الدينية، وأقاليمها الجغرافية، وأجيالها المختلفة.

أولى المفارقات الصارخة في تشكيل المجلس هي المركزية المفرطة، حيث يغيب تمامًا ممثلو الأقاليم المصرية بثقافاتهم الغنية وإبداعاتهم المتميزة. أين أدباء الصعيد الذين قدموا أعمالًا أثرت المكتبة المصرية؟ وأين مثقفو الدلتا الذين حافظوا على التراث الشعبي؟ وأين كتاب سيناء الذين عاشوا تجربة مقاومة فريدة؟ كيف يمكن لمجلس يضع السياسة الثقافية للبلاد أن يتجاهل أصحاب الأرض الحقيقين؟

فالمفكرون والمبدعون في المحافظات ليسوا “ضيوفًا” على الثقافة المصرية، بل هم أصحابها الأصليون، وإقصاؤهم يعني إفقاد الثقافة جذورها الحيوية.

السؤال الأكثر إيلامًا أين المسيحيين في هذا التشكيل؟كيف يُتجاهل مثقفون بحجم الدكتور سمير مرقس، أو رائد السينما الواقعية داود عبد السيد، أو المخرج خيري بشارة الذي قدم سينما إنسانية خالدة؟ الأقباط ليسوا أقلية عابرة في التاريخ المصري، بل هم شركاء في الحضارة والهوية، وإغفالهم يرسل رسالة خطيرة بأن الثقافة الرسمية لا تعترف بكل مكونات الوطن.

إن الثقافة التي لا تحتضن تنوعها الديني هي ثقافة مشوهة، والتاريخ سيسجل أن مصر – في لحظة من لحظاتها – آثرت التوحيد القسري على التعددية الخلاقة.

ولا يقل غياب النوبة إثارة للاستفهام، فبينما تُختزل الثقافة النوبية في المهرجانات كـ”لون محلي”، يُغيب عن المجلس مثقفون كبار مثل الأديب حجاج أدول، الذي يحمل هموم الهوية النوبية وإبداعها، فالنوبة ليست مجرد “رقصات وأغانٍ”، بل هي ذاكرة مصر المائية والتاريخية، وإهمالها يعني انتقاصًا من شرعية الثقافة الوطنية ذاتها.

والأزمة لا تقتصر على الإقصاء الجغرافي أو الديني، بل تمتد إلى الإقصاء الجيلي، فتشكيل المجلس يخلو تقريبًا من ممثلي جيل الوسط (الأربعينيات والخمسينيات) الذين يشكلون الجسر بين الأصالة والمعاصرة، كما يغيب عنه الشباب الذين يجب أن يكونوا أصحاب المصلحة الحقيقية في صنع مستقبل الثقافة، فكيف نطالب الشباب بالانتماء لمشروع ثقافي لا يسمع أصواتهم؟

والنتيجة ثقافة بلا شرعية.. ووطن بلا روح!

الرسالة التي يبعثها هذا التشكيل هي أن الثقافة الرسمية ترفض الاعتراف بتنوعها الداخلي، مما يطرح أسئلة خطيرة وهي، كيف نطلب من أبناء الصعيد أو النوبة أو سيناء الانتماء إلى مشروع ثقافي لا يراهم؟، كيف نطالب المسيحيين بالولاء لوطن يُقصيهم من صناعة سرديته الثقافية؟، كيف نضمن استمرارية الثقافة إذا كان جيل المستقبل مغيبًا عن قرارات الحاضر؟

إذا أردنا لثقافتنا أن تكون حقيقية، فلا بد من تمثيل عادل للأقاليم، بحيث يكون لكل منطقة صوت في المجلس، إشراك المسيحيين والمكونات الدينية كشركاء في صنع السياسات، لا كمجرد ديكور، إبراز الثقافة النوبية والسيناوية كجزء أصيل من الهوية، لا كتراث هامشي، وإدماج جيلي الوسط والشباب لضمان استمرارية المشروع الثقافي.

وإلا، فسنظل ننتج ثقافة بلا جذور، وهوية بلا روح، ووطنًا بلا ذاكرة، وأخيرا يطرح السؤال نفسه، هل يوجد استعداد حقيقي لمواجهة هذه الحقائق، أم أن الصمت سيكون هو الإجابة الوحيدة.

المصدر: موقع الحرية الإخباري الإليكتروني

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى