
في خضمّ أزمات متلاحقة تضرب مفاصل الدولة المصرية، وفي ظل واقع يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ترتفع بين الحين والآخر أصوات صادقة تحاول دقّ ناقوس الخطر قبل أن تشتعل النيران في كل الاتجاهات. ومن بين هذه الأصوات، برز مؤخرًا مقال الكاتب الصحفي الكبير عبد الناصر سلامة تحت عنوان: “سقوط مصر ليس حلًّا”، والذي قدّم فيه تشخيصًا جريئًا لما آلت إليه الأوضاع، وتحذيرًا واضحًا من الانزلاق نحو المجهول.
لكن السؤال الأهم الذي ينبغي أن يُطرح بعد قراءة هذا المقال:
إذا كان الطوفان يقترب، فمتى يستيقظ عقلاء هذا الوطن؟ ومتى يُصغون لصوت العقل قبل أن تطيح بنا رياح الغضب والانفجار؟
حين تصبح الفوضى سياسة معلنة
- ما نشهده اليوم في مصر لا يمكن وصفه بأنه أزمة عابرة أو مرحلة حرجة ستزول بزوال السبب، بل نحن أمام حالة من التفكك المتدرّج، والانهيار البطيء، تبدأ بتدهور اقتصادي واضح، ولا تنتهي عند حدود الاختناق السياسي أو الفشل الإداري.
- • تعطّل في المرافق الحيوية دون محاسبة واضحة.
- • حرائق متكررة تُحاصر مؤسسات الدولة وسط صمت غريب.
- • فقدان الثقة في النخب، وتآكل مؤسسات الوساطة بين الدولة والمجتمع.
- • غياب كامل لأي أفق للإصلاح أو حتى الاعتراف بالأزمة.
كل هذه المؤشرات تدل على أن الفوضى لم تعد مجرّد احتمالية، بل أصبحت خيارًا يُدار بعناية، سواء بقصد أو بإهمال.
سقوط الدولة ليس حلاً… بل تهديدٌ للوطن كله
من الخطأ أن يُختزل الحل في فكرة إسقاط الدولة أو تفكيك النظام بشكل جذري، وكأنّ ما بعد الانهيار سيحمل بالضرورة واقعًا أفضل. لكن من الظلم أيضًا أن يُحمَّل الشعب أو ثورات الربيع العربي مسؤولية الخراب الحاصل، كما لو أن من خرجوا بحثًا عن الكرامة والحرية هم من جرّوا الأوطان إلى الانقسام والدمار.
والحقيقة التي لا ينبغي تجاهلها، أن ما وصلنا إليه في كثير من الدول العربية لم يكن ليحدث لولا عناد الحكام، وسلوكهم طريق القمع بدل الحوار، والرصاص بدل الإصلاح، والتخوين بدل الاحتواء. لقد اختاروا أن يُغلقوا آذانهم عن صرخات شعوبهم، وأن يتعاملوا مع مطالب الحرية بوصفها تهديدًا، لا نداءً للنجاة.
إن سقوط الدولة لا يُفضي تلقائيًا إلى بناء جديد، بل غالبًا ما تملأ الفراغ قوى العنف والتطرف، وسماسرة الدم، وأمراء الحرب. فحين تضعف الدولة، لا ينهض البديل المدني فورًا، بل تتزاحم الأيادي العابثة على ما تبقى من أشلاء الوطن.
وقد لخّص عبد الناصر سلامة هذه المعضلة بقوله:
“الفوضى ليست حلًّا، بل هي الفخ القاتل الذي يُراد لنا أن نقع فيه.”
ولكن… الفوضى ليست قدرًا محتومًا. بل هي نتيجة خيارات خاطئة، واستمرار في الإنكار، وتأخّر مميت في الإصلاح.
أين صوت العقل؟
ما يدعو للأسى أن كثيرًا من الأصوات العاقلة إما صامتة تحت وطأة الخوف، أو عاجزة عن إحداث التأثير، أو مشتبكة في صراعات جانبية لا طائل منها. بينما تمضي البلاد نحو مزيد من التآكل، وتغيب المبادرات الجادة التي يمكن أن تعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي.
• أين القوى السياسية القادرة على جمع الكلمة؟
• أين المثقفون القادرون على طرح مشروع وطني جامع؟
• أين رجال الدولة الحقيقيون الذين يملكون شجاعة المصارحة واتخاذ القرار؟
نحن لا نفتقد الكفاءات، بل نفتقد الإرادة الوطنية الخالصة التي تُقدِّم مصلحة الوطن على المكاسب الحزبية والشخصية.
ما الطريق إلى الإنقاذ؟
ما تحتاجه مصر اليوم ليس سقوطًا جديدًا، بل نهوضًا رشيدًا. نحتاج إلى إصلاح عميق يبدأ من الداخل، ويستند إلى قاعدة مجتمعية حقيقية، ويُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، على أساس العدالة والكرامة والشراكة.
- ولن يتحقق ذلك إلا من خلال:
- 1. اعتراف رسمي بالأزمة وبجذورها العميقة، لا مجرد تبريرات سطحية.
- 2. مبادرة شاملة تطرح مشروعًا للإنقاذ الوطني، يشارك فيه الجميع دون إقصاء.
- 3. تهيئة مناخ سياسي يسمح بالحوار والمحاسبة والتعددية الحقيقية.
- 4. تحييد مؤسسات الدولة عن الصراع السياسي، واستعادة دورها المهني والوطني.
ختامًا: قبل أن يفوت الأوان
إن مصر أكبر من أن تُختزل في سلطة، وأعظم من أن تُترك لمصير مجهول. وإذا كانت هناك فرصة أخيرة للنجاة، فإنها تكمن في استجابة العقلاء قبل أن تبتلعنا دوّامة الانهيار.
فلا تجعلوا الغضب يطفئ المصابيح الأخيرة…
ولا تجعلوا الخصومة تسبق الحكمة…
ولا تسمحوا للتاريخ أن يكتب أن العقلاء صمتوا… فصمت معهم الوطن.