مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: رئيس الوفد بين دقة الكلمة وإعادة تعريف الثورات

في رحاب وطنٍ تُنسج خيوط تاريخه العظيم بحبر الفداء والعطاء، وتُضاء صفحات حاضره بنور التحدي والصمود، يتجلى المشهد السياسي كنسيجٍ معقد يستدعي منا التأمل والتحليل العميق؛ إن الحوار الوطني، بكل أطيافه وتجلياته، هو شريان الحياة الذي يغذي جسد الأمة، ويُشكّل وعيها الجمعي.

ولكن، في خضم هذا الحراك الفكري، يبرز تساؤل جوهري حول آليات النقد والتقييم، فهل يستوي النظر إلى قاماتٍ وطنية راسخة كرموزٍ تاريخية، بالنظر إلى مواطن عادي في حديثٍ عابر؟ وهل يحق لنا أن نكيل التهم جزافًا دون فهمٍ كامل للسياقات والدوافع؟

إن الحكم على الرجال، سواء جلسوا على كرسي الزعامة كعملاقي “سعد” و”النحاس”، أو تربعوا على صدارة الفعل الوطني كـ”فؤاد سراج الدين”، أو حتى كانوا من عامة الناس في جلسة “مسطبة” عفوية، يقتضي الإنصاف والتدبر.

فلا يُمكن أن نُقيم رجالات السياسة العظام بمعايير اللحظة العابرة، ولا أن نُخطّئ من يخوض غمار الحديث العام دون تمحيص.

وفي هذا السياق، استوقفني المشهد الأخير لرئيس حزب الوفد العريق، الدكتور عبدالسند يمامة، في حوارٍ متلفز، عندما استشهد بآيةٍ قرآنية كريمة، فتعالت بعض الأصوات ناقدة.

وهنا أؤكد، أن استخدام الآيات القرآنية في خطابنا العام، وفي تزيين مؤسساتنا، ومعابرنا، ومحاكمنا، ومتاجرنا، هو ليس بالخطأ أو الهفوة؛ بل هو تعبيرٌ أصيل عن روح هذا الوطن الذي يتنفس الإيمان.

فكم رأينا على بوابات مصر الشامخة عبارة “ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ“، وعلى أعتاب قبلة الدنيا مكة المكرمة “وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا“، وفي بهو محاكمنا حيث تُعلي كلمة الحق “وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ“.

وفي كل ركن من أركان حياتنا، تُوشَح الجدران بعبق الوحي: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا“، أو “وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا“، وفي محال الخياطة “وَفَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا“.

إنها تجلياتٌ طبيعية لإيمانٍ عميق يُشكّل وجدان هذا الشعب، ولا ينبغي أن تُتخذ ذريعة للتقليل من شأن قامةٍ فكرية أو سياسية.

إن قراءة حديث الدكتور يمامة تتطلب وعيًا بمنطلقاته وقدراته؛ ففي طيات كلماته، تتجلى نقاط قوة بارزة تُشير إلى عقلٍ راجح وخبرة متراكمة.

لقد أظهر الرجل بصيرة دستورية وقانونية فريدة، عمقها سنواتٌ من العطاء الأكاديمي والعمل البرلماني، مما يجعله مرجعًا في قضايا الإصلاح التشريعي.

كما تميز حديثه بالجرأة والصراحة غير المواربة، فلم يخشَ التعبير عن رؤاه النقدية لنظمٍ انتخابية أو سياساتٍ اقتصادية معينة، في تجلٍّ لمبدأ المعارضة البناءة المسؤولة.

وتأكد من خلال كلماته وطنيته الصادقة وانتمائه العميق لتراب هذا الوطن، وتقديره للجهود المبذولة في سبيل بنائه، كإشادته الواضحة بمشاريع البنية التحتية، التي تعد شريانًا حيويًا لا يمكن إنكار فضله.

هذه الصفات ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج مسيرة طويلة من العمل العام والتفكير النقدي، مما يضعه في مصاف المحللين السياسيين الأكفاء الذين يضيفون للحوار الوطني.

وبقدر ما نحتفي بنقاط القوة، فإن التحليل البناء يقتضي الإشارة إلى بعض الجوانب التي يمكن تطويرها؛ فقد بدا في بعض مواضع حديثه ميلٌ إلى العمومية في تناول بعض القضايا، لا سيما عند تقييمه لأداء المعارضة، مما قد يترك مساحة للتأويل، ويُفضّل في مثل هذه الحالات مزيد من التحديد.

كذلك، كان هناك تحفظٌ ظاهر في الخوض بتفاصيل بعض الخلافات الداخلية للحزب، وهو أمرٌ مفهوم حرصًا على كيان الحزب، ولكنه قد يُشير إلى حساسيةٍ في تناول بعض الملفات.

وفيما يتعلق برؤيته لبعض الأحداث التاريخية المحورية في مصر، لا سيما موقفه من أحداث 25 يناير مقارنة بـ 30 يونيو، فقد عبر عن وجهة نظره بأن 25 يناير قد شابتها عناصر أفسدت المشهد، بينما يرى في 30 يونيو تعبيرًا عن إرادة شعبية حقيقية وسبيلًا للإصلاح الجذري؛ هذه الرؤية، وإن كانت تعكس قناعته، إلا أنها تفتح الباب لتناول أعمق لمفاهيم التحول السياسي في تاريخنا.

وهنا يفرض علينا الواجب الوطني والتحليلي، أن نخطو خطوةً أبعد في فهمنا للأحداث، مستنيرين بمصابيح العلم السياسي؛ فليس كل حراكٍ شعبي أو تحولٍ سياسي يمكن أن يطلق عليه لفظ “ثورة” بكل معانيه.

فـالثورة (Revolution) هي تحولٌ جذري وشامل في بنية السلطة والمجتمع، يقلب الأوضاع القائمة رأسًا على عقب، وينشئ نظامًا سياسيًا واجتماعيًا جديدًا، غالبًا ما يكون مصحوبًا بعنفٍ واسع النطاق ومشاركةٍ شعبية عارمة تسعى لتغيير شامل.

أما الانقلاب (Coup)، فهو استيلاء مجموعة صغيرة، غالبًا عسكرية أو نخبة، على السلطة بالقوة، دون تغيير واسع في البنية الاجتماعية أو السياسية.

والهوجة (Upheaval)، هي فترة من الاضطراب أو الفوضى العارمة، تفتقر غالبًا إلى قيادة واضحة أو أهداف سياسية محددة.

أما الانتفاضة (Uprising)، فهي مقاومة شعبية أو تمرد ضد سلطة قمعية، قد تكون محدودة جغرافيًا أو تركز على مطالب محددة.

وأخيرًا، الحراك الشعبي (Popular Movement)، وهو تحركات جماعية منظمة أو غير منظمة للمواطنين بهدف تحقيق تغيير سياسي أو اجتماعي من خلال الاحتجاجات والمظاهرات والدعوة.

وبناءً على هذا التصنيف الدقيق، يُصبح لزامًا علينا مراجعة ألقاب بعض محطات تاريخنا؛ فلقد نال الشرف الحقيقي أن يُطلق عليه لقب “الثورة” بجدارة، هو ثورة 1919 العظيمة؛ تلك الملحمة الوطنية التي جسدت أسمى معاني التلاحم الشعبي من أقصى البلاد إلى أقصاها، وهدفت إلى تغييرٍ جوهري في البنية السياسية الاستعمارية، مُنتزعًا استقلال البلاد ومُؤسسًا لمرحلةٍ جديدة.

أما ما تلاها من أحداثٍ تاريخية كبرى، وإن كانت ذات أهمية بالغة في مسار الأمة، فإن تصنيفها في كتب السياسة، ينبغي أن يكون أكثر دقة، فقد كانت أقرب إلى كوْنها حركاتٍ شعبية، أو انتفاضات، أو تحولاتٍ في السلطة، لا ترقى إلى التعريف الشامل للثورة بالمعنى الأكاديمي، وهذا هو رأيي الشخصي المستند إلى التحليل العميق لمصادر علم السياسة، فالتاريخ يُفسح المجال أمام قراءاتٍ مختلفة، تضيء الزوايا التي قد تُغفلها التسميات الشائعة.

في خضم هذا المشهد المتلاطم، تتجلى حقيقةٌ لا يمكن إنكارها: أن مصر ليست مجرد بقعةٍ على الخريطة، بل هي فكرةٌ أزلية، وروحٌ خالدة، ومرسى لكلِّ غريبٍ وملهوف.

إنها حِمىً يتوارثه الأجيال، وأمانةٌ في أعناقنا جميعًا؛ فلا مجال بعد اليوم للتمترس خلف الألقاب البالية، ولا للانجرار وراء التصنيفات الجاهزة.

واجبنا الوطني يقتضي منا تجاوز كل ذلك، والارتقاء بوعينا السياسي إلى حيث تُصان الكلمة، ويُحترم الفكر، وتُعلَى راية الوطن فوق كل اعتبار.

لتكن أقلامنا جسورًا للحوار لا خنادقَ للتنازع، وليكن نقدنا محفزًا للبناء لا معاولَ للهدم؛ إنها لحظةٌ تاريخيةٌ تتطلب منا أن نكون على قدر عظمة هذا البلد، وأن نُعلي صوت الحكمة، ونُضيء دروب المستقبل بأملٍ لا ينضب، فمصر تستحق منا كلَّ قطرةِ عرقٍ، وكلَّ وميضِ فكرٍ، وكلَّ خفقةِ قلب، لتبقى منارةً للحق والعدل، ومهدًا للحضارة، وقلعةً شامخةً لا تَلين أمام عواصف الزمان.

وأختم مقالي، إن مسؤوليتنا كأبناء هذا الوطن تتجاوز مجرد ترديد الشعارات؛ إنها تتجلى في فهمٍ عميق لتحدياته، وتقييمٍ منصف لرجالاته، وتحليلٍ رصين لأحداثه.

إن مصر، بتاريخها العريق ومستقبلها الواعد، تستحق منا كل تجرد في الرأي، وكل إخلاص في النقد البناء، وكل جهد في سبيل رفعتها.

فلنتحد جميعًا، قادةً وشعبًا، في مسيرة البناء، بعيدًا عن لغة التجريح، ومتمسكين بروح الانتماء، لأن هذا الوطن هو القاسم المشترك الأعظم، ومصيرنا جميعًا معلقٌ به.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى