
(5 – 10) من سلسلة: من الأزمة إلى النهضة… رؤية إنقاذ وطن
تمهيد: حين يصبح الأمن خصمًا لا حامياً
لا يُبنى وطن على الخوف، ولا تُصان دولة حين تُصبح أجهزتها خصمًا لمواطنيها. ومع ذلك، فقد أصبح “الأمن” في مصر – على مدار عقود – مرادفًا للضبط والسيطرة، لا للطمأنينة والحماية. وبدلًا من أن يكون المواطن في قلب المعادلة الأمنية، أصبح خارجها، بل موضع اشتباه دائم، وساحة اختبار مستمر.
وفي ظل هذا المنطق، لم يعد القانون مرجعًا لضبط العلاقة بين الفرد والدولة، بل أصبح أداة لتبرير القمع، أو غطاءً للبطش، أو وسيلة لضبط المجال العام وفق مزاج السلطة.
ولذلك، فإن أي مشروع وطني لإنقاذ مصر لا بد أن يعيد صياغة مفهوم الأمن من جذوره، ويطرح رؤية جديدة للمنظومة الأمنية والقانونية، تُعيد الاعتبار لأمن الإنسان، لا أمن النظام.
أولًا: منظومة أمنية تشكّلت ضد المواطن لا معه
منذ تأسيس الدولة المركزية الحديثة، ترسّخ في الوعي المؤسسي أن الأمن هو حماية النظام من المجتمع، لا حماية المجتمع من المخاطر. وبدلًا من أن تتطوّر هذه الفلسفة مع الزمن، تم تحصينها وتعميقها.
وتجلّى ذلك في:
• تغوّل الأجهزة الأمنية على الحياة العامة؛
• تمدّد صلاحيات الضبط دون رقابة أو مساءلة؛
• تقنين الاستثناء في صورة قوانين طوارئ ومحاكم خاصة؛
• عسكرة المجال المدني، وملاحقة المعارضين، وتجريم النقد.
وبهذا الشكل، فُقدت الثقة بين المواطن ومؤسسات الأمن، وتحوّل القانون إلى أداة خوف بدل أن يكون مرجع أمان.
ثانيًا: الأزمة أعمق من الممارسات… إنها أزمة تصور
لا تكمن المعضلة فقط في حجم الانتهاكات، أو في شكاوى السجون والتعذيب، رغم فداحتها، بل في منظور السلطة إلى المواطن.
فهو ليس شريكًا في الوطن، بل مُشتبهًا به إلى أن يثبت ولاؤه.
ليس مستحقًا للحقوق، بل متلقّيًا لها بشروط.
ليس مواطنًا حرًّا، بل فردًا يُراقَب ويُقاس ولاؤه باستسلامه.
وهذه النظرة هي التي تجعل القانون هشًّا، ومؤسسات العدالة شكلية، وتفرغ الحقوق من مضمونها.
ثالثًا: أمن الإنسان… فلسفة بديلة لأمن الدولة السلطوي
في مقابل هذا النموذج القائم، تطرح التجارب الوطنية الناجحة تصورًا مختلفًا، يسمّى بـ”أمن الإنسان”. وهو مفهوم يقوم على حماية حياة المواطن، وكرامته، وحقوقه، بوصفه الغاية الأولى لأي منظومة أمنية أو قانونية.
وفي هذا النموذج:
• لا يجوز لأي جهاز أمني أن يعمل خارج الرقابة أو دون تفويض واضح.
• ولا تُقدَّم مصلحة السلطة على مصلحة المجتمع.
• ولا يُستخدم القانون لحماية نظام الحكم، بل لحماية الناس من تغوّل السلطات.
ولذلك، فإن تحوّل مصر إلى دولة قانون حقيقية يبدأ من تغيير فلسفة الأمن ذاتها، وإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة الاحترام، لا الريبة.
رابعًا: الإصلاح الحقيقي يبدأ من خمسة مسارات
لإعادة بناء منظومة أمنية وقانونية تُعلي كرامة الإنسان، لا بد من خطوات واضحة، تشكّل خارطة طريق نحو التغيير:
1. مراجعة شاملة للترسانة القانونية
حذف القوانين الاستثنائية، وإلغاء المحاكم الخاصة، وتقييد استخدام الطوارئ، وإلغاء مواد فضفاضة مثل “إساءة استخدام وسائل التواصل” و”نشر أخبار كاذبة”.
2. إصلاح الأجهزة الأمنية
بما يضمن خضوعها للرقابة البرلمانية والقضائية، وتقييد صلاحيات الضبط، وضمان المحاسبة على أي انتهاك.
3. تعزيز استقلال القضاء
ليس فقط شكليًا، بل من حيث آلية التعيين، وحرية التقدير، وحماية القضاة من التدخّل التنفيذي أو الأمني.
4. إطلاق الحريات العامة
بضمان حرية الرأي والتعبير، والعمل النقابي، والتنظيم السلمي، ووقف ملاحقة النشطاء والمعارضين بسبب آرائهم.
5. وضع استراتيجية وطنية للعدالة الانتقالية
تُعالج بها آثار الظلم والانتهاكات السابقة، وتردّ الاعتبار للضحايا، وتؤسس لمصالحة قائمة على الاعتراف والمحاسبة والتعويض.
خامسًا: القوى الوطنية… مطالبة ببناء تصوّر جديد للأمن
ليست مواجهة الانتهاكات الأمنية مجرد معركة حقوقية، بل قضية جوهرية في مشروع النهضة. فالأمن ليس قضية أجهزة، بل رؤية شاملة لكيفية إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ولذلك، فإن القوى الوطنية الجادة في التغيير، مطالبة اليوم بأن تتجاوز مرحلة ردود الأفعال، وتبدأ بصياغة بدائل واضحة، توازن بين الاستقرار والحرية، بين الأمان والكرامة، بين الدولة والمجتمع.
فنحن لا نريد أن نُكرّر أخطاء الماضي حين استبدلنا استبدادًا باستبداد، أو أطلقنا شعارات بلا مؤسسات، أو رفعنا الحرية دون بناء بديل قانوني متماسك.
خاتمة: لا كرامة بلا أمن… ولا أمن بلا حرية
إنّ المعركة الحقيقية ليست فقط مع نظام أمني متغوّل، بل مع ثقافة كاملة تُنتج الخوف وتُبرّره. ولا يمكن بناء وطن مستقر ومزدهر في ظل هذه العقلية، مهما كَثُرت المشاريع الاقتصادية أو تسارع النمو الشكلي.
التحوّل الحقيقي يبدأ حين يتوقف المواطن عن الخوف من دولته، وتكفّ الدولة عن اعتبار المواطن خطرًا.
وإصلاح المنظومة الأمنية ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية… من أجل الإنسان، ومن أجل الوطن، ومن أجل المستقبل.