
هناك لحظات في تاريخ الأمم تُنذر بالخطر، لا لحداثة المشهد، بل لتكراره الأعمى. ولعل ما نراه في مصر الآن، ونحن نتابع نتائج المسرحية السياسية الهزلية تتكرر فصولها، هو لحظة كهذه.
أليست أزمة مفاجئة، بل انحدار ناعم نحو المأساة، يديره نظام يبدو وكأنه فقد القدرة على التعلم من أخطائه… أو ربما فقد الرغبة.
- انتخابات بلا انتخاب… وقوائم بلا منافسة
لا أجد كلمة غير “العبث” لوصف ما يُعدّ الآن تحت لافتة “الانتخابات”.
قوائم موحدة مُعدّة سلفًا، تديرها الأجهزة الأمنية، وتُزيَّن بشعارات وطنية جوفاء.
هل هذه ديمقراطية؟ أم عرض مسرحي ردئ، تمكنت السلطة فيه من تمثيل كل الأدوار، بمن فيهم “المعارضة” المصنوعة؟
هل حقًا تعلموا أن الشكل بلا مضمون لا يصنع شرعية ولا يمنع انفجارًا؟ - كَمّ الأفواه و”فترة” الإعلام
الرسالة واضحة: من ينتقد يُقصى.
وهذا لا يطال فقط أصحاب المواقف السياسية، بل حتى الإعلاميين أصحاب التأثير الجماهيري.
(إيقاف لميس الحديدي، وإبراهيم عيسى، وخيري رمضان، وإجازة إجبارية لعمرو أديب…) - همسات التعديل… واستقرار الوهم
تتسرب اللمزات الإعلامية، والحورات “غير العفوية”، لتمهّد لتعديل دستوري جديد.
العنوان المكرر: “ضمان الاستقرار”، لكن المضمون مكشوف: مدّ فترة الرئاسة لولاية رابعة.
منذ متى كان التمديد وسيلة استقرار؟
ألم تخرجها الأنظمة من قبل للنهاية إلى الفوضى والانهيار؟ - دين خارجي ينخر الجسد
لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيرًا اقتصاديًا ليشعر بالقلق من تصاعد الدين الخارجي، وتأكل قدرة الدولة على إدارة اقتصادها بشكل مستقل.
المديونية تُقيد القرار، وتُفقِر الناس، وتخلق بيئة انفجار لا تنفع معها أبراج المراقبة، ولا محطات التجميل. - الدين في حضن السلطة… من جديد
تعود مظاهر تديين الحكم من الأبواب الخلفية، في مشاهد تكررت في العقود الماضية، وكان ثمنها باهظًا:
التربية الدينية المفروضة قسرًا
قوانين تجرم النقاش وتقدّس الرأي البشري
شيوخ يُقبِّلون أيديهم علنًا، بينما تُكمم أفواه المحققين
وشيخ الأزهر في موقع سياسي يلتقي بالسفراء، وكأنه هو رأس الدولة الروحي.
- ذاكرة لا تتعلم… ونظام يقترب من الحافة
هذا المقال ليس تشفّيًا، ولا معارضة عدائية، بل هو محاولة صادقة لمنع النظام من الانتحار السياسي.
فالتاريخ لا يرحم، ومن يكرر أخطاءه لا ينجو منها.
في كل مرة استُبْعد فيها الرأي الآخر، وفي كل مرة احترقت فيها النخبة، وتم تزييف وعي الناس، وتوظيف الدين إلى أداة ولاء لا منعة ولا وعي… كانت النتيجة واحدة: السقوط الحتمي.
خاتمة: الطريق لا يزال ممكنًا… لكنه يضيق.
لا زال في الوقت متسع لتدارك الخطر، بشرط أن يعترف النظام أن المكاشفة لا تضعف الحكم، بل تقوّيه، وأن صوت العقل لا يُخيف إلا من اعتاد الاستبداد.
أما إذا أُغلقت الأبواب، واستُمرّ اللعب في الظل، فلا أحد يضمن ما يأتي بعد الغليان… ولا أحد يربح من الانتحار.
نداء إلى صانع القرار… من قلب يعرف كيف يحب وطنه: سيدي أعلم أنك ترى، وتسمع، وتقرأ.
ولعلك تفهم – أكثر مما يُقال لك – أن ما يُدار اليوم لا يُؤسس لشرعية، بل لانتكاسة.
وأن الاستمرارية ليست في إقصاء المختلف، بل في احتوائه.
ولا في توظيف الدين، بل في احترام عقل المواطن.
ولا في صناعة ولاء مُصطنع، بل في بناء ثقة حقيقية تقوم على المكاشفة والمشاركة.
لقد قُدِّر لك أن تمسك دفة مصر في لحظة فارقة، فلا تجعلها لحظة انغلاق، أو عزلة، أو تكرار لمآسي من سبقوك.
ليس العيب أن نخطئ، بل أن نصرّ على الخطأ، وليس الضعف أن نستمع، بل أن نقصي من ينصح.
سيادة الرئيس
ما زال بإمكانك أن تسطّر صفحة جديدة… لا بعنوان “البقاء”، بل بعنوان “الإنباء”، بأن ترحم الجُرْحَ بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والفكرة، بين الوطن والخوف.
هذه البلاد تستحق أفضل من مسرحية مكررة، ومن نخبة تُقصى، ومن حشود تُهدَّى بلا فهم.
فلا تدع التاريخ يكتب أنك أضعت فرصة النجاة.
حين كان بإمكانك أن تختارها.
- الطريق لا يزال ممكنًا… ونداء من مواطن جرب النصيحة من قبل
مرة أخرى، لا زال في الوقت متسع لتدارك الخطر، بشرط أن يعترف النظام أن المكاشفة لا تضعف الحكم، بل تقوّيه، وأن صوت العقل لا يُخيف إلا من اعتاد الاستبداد. - ومن مكاني كمواطن مصري صادق، وسياسي كان قريبًا من دوائر القرار، أقول هذا لأني عشته من قبل.
نصحت الرئيس الأسبق مبارك في سنوات ما قبل 2011، ثم عندما توليت المسؤولية السياسية ساعة الأزمة. وقلت له ما يجب أن يُقال: إن الإصلاح السياسي الحقيقي لم يعد ترفًا، وأن التنحي الطوعي وإجراء انتخابات حقيقية هو المخرج الآمن.
كان يعلم أنني ناصح أمين، لكن حين نصحته بالتنحي فعليًا، وألا يكون طرفًا في مستقبل الصراع، أقصيت من دائرة القرار، وأحاط به من أقنعوه بالبقاء، فوقعت الفوضى… وكان ما كان.
واليوم، أرى نفس السيناريو يتكرر بأشكال جديدة:
إقصاء، تزوير للواقع، تجاهل للصوت العاقل، تدخل خطير بين الدين والسياسة، وانفصال بين السلطة والمجتمع.
لكنني ما زلت أؤمن… أن مصر لا تستحق انتحارًا سياسيًا جديدًا، ولا فوضى بلا بدائل.
ما زالت هناك فرصة للإفاقة، وأنتم تملكون القرار… فهل تختارون الحياة أم التكرار؟