في ذكرى سقوط الملكية المصرية..ما الذي تبقى من دولة يوليو 1952؟

تحلّ اليوم ذكرى ثورة يوليو 1952 الذي يراها البعض أيضا انقلابا عسكرياً على الملكية بدعم أمريكي بلا أى ظهير شعبي يدعمها، كما يراها اليساريين بصمة تاريخية لا تُمحى، لا على أرض مصر فحسب، وإنما على امتداد الوطن العربي؛ بل وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أيضاً، كونها جسدت آمال شعب مصر العربي وطموحاته إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي الآمال والطموحات نفسها التي كشف عنها النضال الوطني لكل شعب عربي ولكل الشعوب التي خضعت للهيمنة الاستعمارية وظلم النظم التابعة لقوى الاستعمار أو على الأقل العاجزة عن مواجهتها.
أهداف حراك يوليو 1952
يقصد بمشروع ثورة يوليو مجمل الأهداف والتوجّهات والمواقف التي تبنّتها على الصعيدين الداخلي والخارجي حركة الضباط الأحرار، إبّان المرحلة التي تولى فيها عبد الناصر مقاليد السلطة، وهو مشرع استهدف، على الصعيد الداخلي، تحرير القرار الوطني من سيطرة رأس المال على الحكم، وبناء جيش وطني قوي، وتحقيق نهضة تنموية شاملة في مختلف المجالات الصناعية والزراعية والخدمية مع ضمان عدالة التوزيع، وتحقيق استقلال القرار الوطني وتحريره من كل مظاهر التبعية للخارج، والسعي إلى تحقيق الوحدة العربية، ومقاومة المشروع الصهيوني والتصدّي لمخطّطاته التوسّعية بكل الوسائل المتاحة، فهل تحققت تلك الأهداف على أرض الواقع؟
يقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في مذكراته عن ثورة يوليو: ولا أرى شيئا إيجابيا منذ ذلك الحين إلا بناء السد العالى، كانت السلبيات كثيرة ومخيفة، إنهيار تام لنظام الحكم الديمقراطى قبل ٥٢، تبديد ٤٥٠ مليون جنيه إسترلينى رصيد مصر فى بنوك إنجلترا- ضياع ٥٣٢ طن رصيد مصر من الذهب، فشل فى تحدى إسرائيل واستشهاد ٢٤٠ الف مصرى فى الحروب معها- ضياع السيادة المصرية على قطاع غزة وسيناء وخليج العقبة.
انهيار تام لمنظومتي التعليم والصحة، إدمان تزوير كل الانتخابات، عدم تولى مدنى الرئاسة منذ ٥٢، هجرة علماء مصر للخارج، ومن سخريات القدر أن الذى قاد الانقلاب بالقبض على قيادات الجيش يوسف صديق كان مآله السجن وتشريد عائلته، إضافة إلى أن أول رئيس مصري وهو محمد نجيب أودع السجن لعشرات الأعوام ليس لشيء إلا أنه طالب الجيش بالعودة إلى ثكناته وبناء نظام مدني منتخب.
أسطورة الناصرية
بلغ الرئيس جمال عبد الناصر بعد أحداث يوليو مبلغا عربيا ومصريا قلما بلغه رئيس عربي أو مصري حينذاك، فالرجل كان يتمتع بكاريزما عالية وحضور طاغٍ ما جعله رمزا سياسيا يصعب كسره أو تكراره، لكن هل كان عبد الناصر في سياسته على نفس النسق من التفرد والتميز؟
عند سيطرة الضباط على السلطة، كان العالم يشهد تحولات كبيرة، الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي ترتفع وتيرتها وتتسع ويكون لها في الشرق الأوسط جولات عبر الأحلاف والاستقطاب السياسي الحاد، إسرائيل نظرت إلى ما حدث في مصر بعين التوجس والتربص وبدأت في ترتيب خرائط جديدة سياسياً وعسكرياً، التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، كانت أهدافاً تأسيسية للحركة، واتجهت إلى بناء السد العالي الذي يحتاج إلى تمويل خارجي، ولم توافق أميركا على ذلك إلا بشروط؛ مما دفع جمال عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس. من هنا كان المنعطف الذي غير المسار السياسي لمصر والمنطقة. حرب السويس خلقت من عبد الناصر الزعيم العربي، بل والإقليمي.
فوجئ عبد الناصر بالتضامن العربي الكببر لجسارة قراراته آنذاك، فتسلح بقوة العروبة وناصر حركات التحرير والاستقلال؛ مما أعطاه قوة ضاربة مضافة، ولكنه فتح عليه في الوقت ذاته أبواباً لعداوات واسعة. بعد الوحدة مع سوريا وانهيارها والتدخل العسكري في اليمن، تغيرت كل قواعد المواجهة مع الغرب وإسرائيل.
إن للزعامة الفردية أثمان قاتلة تتوالد بلا توقف، فقد تفكك مجلس قيادة الثورة وانتشر الضباط في مفاصل الدولة المصرية يعربدون وينهبون وما زالوا إلى الآن يدمرون الاقتصاد المصري وينسجون على منوال من سبق من العسكر بإجرام أشد وأقوى، وكان لقوانين التأميم ارتدادات واسعة على فاعلية الاقتصاد المصري، وفتحت القاهرة مدافعها الإعلامية على الكثير من الأنظمة العربية وهاجمتها، واعتقل الكثير من المصريين في السجون تحت التعذيب والموت البطيء، خاصة من جماعة الإخوان المسلمين، واضطر عبد الناصر إلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي شبه مرغم لمواجهة التهديدات الإسرائيلية والسياسات الأميركية.
نكسة 1967
كانت هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 كارثة بكل المقاييس، وما زالت آثارها اليوم غائرة في الأرض والعقل والضمير العربي إلى اليوم، ويرى البعض أنها الظل الغائم الذي غطى على أى إنجاز قام به عبد الناصر.
فقد شنّت إسرائيل في 5 من يونيو/ حزيران 1967، هجومًا على مصر والأردن، وسوريا، وتمكنت من احتلال شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان.
أطلقت إسرائيل على هذه الحرب اسم “الأيام الستة”، فيما عُرفت عربياً بـ “النكسة”، أو “حرب حزيران، وبدأت الحرب بشنّ سلاح الجو الإسرائيلي هجومًا على قواعد سلاح الجو المصري الذي كان واقفا في مكانه على الأرض، وكان ذلك الهجوم، النقطة الفاصلة بعد ثلاثة أسابيع، من التوتر المتزايد بين إسرائيل وكل من مصر، والأردن.
وامتدت الحرب من 5 إلى 10 يونيو/حزيران، وأدت إلى استشهاد نحو 20 ألف عربي و800 إسرائيلي، وتدمير من 70 -80% من العتاد الحربي في الدول العربية مقابل 2-5% في إسرائيل، وفق إحصائيات إسرائيلية.
وترتب على “النكسة”، وفق إحصائيات فلسطينية تهجير نحو 300 ألف فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، معظمهم نزحوا إلى الأردن، ومحو قرى بأكملها وفتح باب الاستيطان في القدس والضفة الغربية المحتلة.
ولم تنته تبعات حرب 1967 حتى اليوم، إذ ما تزال إسرائيل تحتلّ الضفة الغربية، كما أنها قامت بضم القدس والجولان لحدودها، فيما يتعرض قطاع غزة إلى إبادة جماعية وتجويع ما عرف التاريخ الحديث مثله.
لقد أخذ عبد الناصر ثمن انتصاره في تأميم قناة السويس والسد العالي والقضاء على الإقطاع، لكنه دفع الكثير من ذلك في هزيمة مذلة أمام إسرائيل وهنا بدأ يخفت نجم عبد الناصر ويدخل تاريخه في فلك الغروب، إلى أن توفاه الله عام 1970.