
(6 – 10) من سلسلة: من الأزمة إلى النهضة… رؤية إنقاذ وطن
تمهيد: حين تُغيب الشعوب عن القرار… تنهار الدول من الداخل
في لحظات التحوّل الكبرى، تطرح المجتمعات على نفسها أسئلة مصيرية: كيف ندير خلافاتنا؟ كيف نختار مساراتنا؟ من يُقرر لمن؟ ومن يراقب من؟
وقد دلّت التجارب القديمة والحديثة أن احتكار القرار يولِّد الانفجار، والتهميش يُنتج الغضب، وأن غياب المشاركة لا يُحقق الاستقرار، بل يؤجله مؤقتًا على حافة الانهيار.
ولذلك، فإن أي مشروع إنقاذ وطني حقيقي، لا بد أن يعيد الاعتبار لفكرة “الشورى المجتمعية” بوصفها جوهرًا للحكم الراشد، لا مجرّد إجراء شكلي، أو موسم انتخابي ينتهي في صناديق مغلقة.
أولًا: الشورى… ليست تراثًا دينيًا فقط، بل نظام سياسي اجتماعي
لطالما رُوّج لفكرة الشورى بوصفها مبدأ أخلاقيًا أو قيمة دينية، تُطرح في الخُطب والوعظ، دون أن تتحول إلى أساس عملي لإدارة الدولة والمجتمع.
لكن الحقيقة أن الشورى هي مبدأ سياسي راسخ، سبق الديمقراطية الغربية بمعناها الجوهري، لأنها تقوم على:
• احترام إرادة الناس،
• وتوزيع القرار لا مركزيته،
• وربط السلطة بالمجتمع لا بالنصوص المجردة.
وفي السياق المصري، فإن غياب الشورى – بمفهومها العميق – أدى إلى تحوّل الدولة إلى جهاز فوقي يُملي ويُقرّر، بينما الشعب يُستدعى فقط للتصفيق أو السكوت.
ثانيًا: الانفصال بين الشعب والدولة… جذر الأزمة السياسية
من أبرز أسباب فشل المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر خلال العقود الماضية، هو فقدان التوازن بين الإرادة الشعبية واستقرار الدولة.
فغُيّبت الشورى باسم “الحفاظ على هيبة الدولة”، وعُطّلت المؤسسات التشريعية باسم “أولوية الأمن”، واستُبعدت الكفاءات الوطنية بحجّة “التخصص أو الولاء”.
- لكن النتيجة كانت عكسية تمامًا:
- • لا استقرار تحقق،
- • ولا تنمية استمرّت،
- • بل تفكّك في الثقة،
- • واستقطاب حاد،
- • وتآكل للشرعية السياسية والمجتمعية.
وبالتالي، فإن العودة إلى الشورى ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية لبناء نظام سياسي يُمثّل المجتمع ويستجيب له.
ثالثًا: من الشورى المغلقة إلى الشراكة المفتوحة
الشورى الحقيقية ليست جلسات شكلية، ولا برلمانات مُدجّنة، ولا استطلاعات رأي محسومة.
الشورى – كما نحتاجها اليوم – هي عملية مستمرة لصياغة القرار، تُشرك المواطن في كل مراحل السياسة العامة: من التفكير، إلى النقاش، إلى التنفيذ.
- وهذا يتطلّب:
- • إعادة بناء المؤسسات المنتخبة على أسس النزاهة والتمثيل الحقيقي.
- • تعزيز صلاحيات الهيئات الرقابية والمحاسبية.
- • إحياء دور النقابات والمجتمع المدني كمجسات حيّة لنبض الشارع.
- • ترسيخ ثقافة الحوار والتفاهم، بدل الإقصاء والتخوين.
رابعًا: نحو منظومة شورى وطنية تجمع ولا تفرّق
من الضروري أن نتجاوز الصيغ الفوقية التي تُقدّم الدولة كطرف واحد يحتكر الحكمة والقرار، والمجتمع كمنفّذ خاضع.
فهذا النموذج لم يُنتج سوى مزيد من العزلة والقرارات الخاطئة.
البديل هو منظومة شورى وطنية تقوم على:
- 1. تمثيل حقيقي للتعدد
- تُعبّر عن كافة المكوّنات الفكرية والاجتماعية دون إقصاء أو تهميش.
- 2. تداول واسع للقرار
- لا يُختزل القرار في النخب أو القيادات، بل يُشرك فيه الفاعلون المحليون، والخبراء، والمجتمع المدني.
- 3. شفافية ومحاسبة
- كل قرار يجب أن يكون معلنًا، مبررًا، وقابلًا للمراجعة، ولا حصانة لأحد أمام النقد أو المساءلة.
- 4. توازن بين المركز والأطراف
- لإنهاء المركزية المفرطة التي حوّلت الدولة إلى جهاز بيروقراطي بعيد عن الناس، وإعطاء السلطات المحلية دورًا حقيقيًا في القرار والتنفيذ.
خامسًا: القوى الوطنية… هل نُنتج نموذج شورى جديد؟
- في لحظة الانسداد السياسي، تبرز فرصة حقيقية للقوى الوطنية بمختلف أطيافها أن تتوافق على تصور جامع للشورى، يتجاوز الصيغ الموروثة والمرتبطة بأنظمة سابقة، ويُنتج نموذجًا:
- • لا يُقصي أحدًا على أساس الهوية أو المرجعية،
- • ويوازن بين الشرعية الشعبية والمؤسسية،
- • ويؤسس لمسار تراكمي قابل للبناء والتطوير.
- فالشورى ليست تحدّي النظام القائم فقط، بل تحدّي القوى البديلة نفسها:
- هل نمتلك الجرأة على التفاهم؟
- هل نستطيع تجاوز خلافاتنا القديمة؟
- هل نضع مصر فوق الحسابات الصغيرة؟
خاتمة: من الانفراد إلى الشراكة… ومن الحاكم الفرد إلى الإرادة الجماعية
لكي ينهض هذا الوطن من أزمته، لا بد من إعادة توزيع السلطة، وإعادة الاعتبار لصوت الناس، وتكريس مبدأ أن القرار يجب أن يُبنى بمشاركة الشعب لا بالنيابة عنه.
إنّ الشورى ليست خيارًا مرنًا نأخذه أو نتركه، بل شرطًا لولادة دولة جديدة، ودعامة لنظام يحترم شعبه، ويستند إلى إرادة جمعية واعية.
من دون الشورى، تستمر الأزمات، وتُنتَج أنظمة شبيهة بالتي ثُرنا عليها.
ومن دون الشراكة، لا تُبنى ثقة، ولا يُحترم استقرار.
فلننتقل من الإقصاء إلى التشارك،
ومن الانفراد إلى الحوار،
ومن الخوف إلى الوعي…
لأن مستقبل مصر، يجب أن يُقرّره شعبها.