
ما لم يتمكن الكيان الإسرائيلي من إفراز نخبة حاكمة تقبل بالتعايش السلمي مع شعوب المنطقة، وتحترم حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، فلن تنعم المنطقة بالأمن في العقود المقبلة.
ما تزال أمواج الطوفان الذي ضرب الكيان الصهيوني يوم 7/10/2023 تعلو وتتحرك في مختلف الاتجاهات، وما تزال العواصف التي هبّت على المنطقة في أعقابه تزمجر في صخب. وحين تنكسر حدة الأمواج المتلاطمة ويهدأ صخب العواصف المزمجرة، ستظهر منطقة الشرق الأوسط في صورة يرجّح أن تكون مختلفة تماماً عن تلك التي اعتدناها من قبل.
حين تداولت وكالات الأنباء، في ذلك اليوم المشهود، خبراً مفاده أن حماس اجتاحت الحدود التي تفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقامت بشن هجوم أسفر عن مقتل ما يقرب من 1200 جندي ومستوطن إسرائيلي وأسر ما يقرب من 250 آخرين، أُصيب العالم بالذهول.
فكيف لأحد أن يتصور، ولو في أقصى خيالاته جموحاً، أن بمقدور منظمة صغيرة، تدير منطقة جغرافية محدودة المساحة ومحاصرة براً وبحراً وجواً منذ ما يقرب من عشرين عاماً، شن هجوم مخطط بهذه الدقة، على واحد من أقوى “جيوش” العالم وأفضلها تسليحاً وتدريباً، ما يعني نجاحها في اختراق تحصيناته ومواقعه المنيعة، رغم ما تتمتع به أجهزته الأمنية من سمعة ومكانة لا مثيل لهما، وتمكنها من السيطرة لبعض الوقت على مساحة من الأراضي تفوق مساحة القطاع ككل، ومن الاشتباك مع كل ما فيها من قواعد عسكرية ومن مستوطنات أمنية، ومع كل من فيها من جنود ومستوطنين، ونجاحها في أسر أعداد تكاد تضاهي الأعداد التي يتكبدها الكيان في حروبه ضد الجيوش النظامية.
كثيرون توقعوا أن تأتي ردة فعل الكيان عنيفة وانتقامية، غير أن ما جرى على أرض الواقع فاق أكثر التوقعات تشاؤماً. فلم يكتفِ الكيان بشن حرب تقليدية على حماس، أو حتى على كل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإنما قرر شن حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني كله، استهدفت تدمير القطاع بأكمله وإفراغه من سكانه وتحويله إلى مكان غير قابل للحياة، راحت تتسع تدريجياً وتنتقل إلى جبهات أخرى كثيرة، شملت الضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق واليمن، لتنتهي بصدام شامل مع إيران، التي تبعد عن الكيان بما يقرب من ألفي كيلومتر.
صحيح أن المدافع سكتت على معظم الجبهات، لكن الحرب ما تزال مشتعلة على الجبهة الفلسطينية رغم مرور أكثر من 21 شهراً.
تعتقد الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي الأكثر تطرفاً، أن “حرب الطوفان” حُسمت عسكرياً لصالحها. فعلى الجبهة الفلسطينية، تحول قطاع غزة إلى كومة من رماد وأصبح غير صالح للحياة، وجرى إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي أصبحت واقعة عملياً تحت سيطرة شبه كاملة لكل من القوات الإسرائيلية والمستوطنين، خصوصاً بعد اقتحام العديد من مخيماتها وإجبار سكانها على النزوح.
وعلى الجبهة اللبنانية، خرج حزب الله من ساحة المعركة وقرر فك الارتباط مع قطاع غزة.
وعلى الجبهة العراقية، صمتت الميليشيات المساندة للمقاومة الفلسطينية وقررت النأي بنفسها بعيداً عن ساحات المواجهة.
وعلى الجبهة السورية، سقط نظام بشار الأسد وانتقلت سوريا من “محور المقاومة” إلى محور الهرولة وراء التطبيع.
وعلى الجبهة الإيرانية، وهي الأهم، أصبحت إيران أقل قوة، بعد تدمير برنامجها النووي بالكامل وإصابة برنامجها الصاروخي بعطب كبير. وضعف نفوذها الإقليمي، بعد تفكيك “محور المقاومة”.
ولذا، ترى حكومة نتنياهو الحالية أنه لم يتبقّ سوى جني المكاسب السياسية وفرض شروطها للتسوية على الجميع، وهو ما تعتقد أنه سيتحقق آجلاً أو عاجلاً من خلال:
- 1- نزع سلاح حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وترحيل قياداتها إلى خارج القطاع تمهيداً لإعادة احتلاله واستيطانه.
- 2- ضم جميع المستوطنات اليهودية، ومعها أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية، لقطع الطريق نهائياً على إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
- 3- نزع سلاح حزب الله تمهيداً لإجبار الحكومة اللبنانية على توقيع معاهدة سلام تأخذ في اعتبارها متطلبات الأمن الإسرائيلي.
- 4- عدم التنازل مطلقاً عن مرتفعات الجولان، حتى لو أدى ذلك إلى عدم إبرام معاهدة سلام مع سوريا، والعمل على إبقاء الأخيرة ضعيفة ومحدودة التسلح في جميع الأحوال، مع احتفاظ الكيان لنفسه بالحق في التدخل لحماية الأقليات، خاصة الدروز والكرد 5- التنسيق مع الحكومة الأميركية لتوسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل دولاً عربية أخرى، خاصة السعودية.
غير أن الحقائق على الأرض شيء، والأوهام التي تعشش في رأس حكومة نتنياهو الحالية شيء آخر. وخصوصاً أن “حرب الطوفان” لم تُحسم بعد، حتى على الصعيد العسكري. فعلى الجبهة الفلسطينية، ما تزال فصائل المقاومة المسلحة تقاتل وتلحق بالجيش الإسرائيلي خسائر يومية وتحتجز العديد من الرهائن، وما يزال الشعب الفلسطيني صامداً متشبثاً بأرضه رغم محاولات الإبادة الجماعية والتجويع،
وما يزال حزب الله اللبناني متماسكاً وقادراً على الصمود والمواجهة، ومن ثم فسوف يستحيل نزع سلاحه إلا في إطار تسوية شاملة تعيد للبنان كامل سيادته على الأرض المحتلة وللدولة اللبنانية قدرتها على الدفاع عن نفسها، وما تزال جماعة أنصار الله اليمنية قادرة على تسديد ضربات موجعة للكيان ومصممة على الاستمرار فيها إلى أن يتم وقف الحرب على القطاع. أما على الصعيد السياسي، فمن الواضح أن حكومة نتنياهو لم تستوعب بعد ما كشفت عنه هذه الجولة من حقائق يمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي:
الحقيقة الأولى: تتعلق بسقوط الأقنعة عن الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني. فقد أكدت هذه الجولة، وبما لا يدع مجالاً لأي شك، أن هذا المشروع يعتمد في تحقيق أهدافه على القوة وحدها، من دون أن يكون لديه أي تصور للتعايش السلمي، لا مع الفلسطينيين ولا مع الدول العربية المجاورة.
فلا مكان في هذا المشروع، حتى من حيث المبدأ، لدولة فلسطينية مستقلة مهما صغر حجمها، ولا يقدم لكل فلسطيني من خيار آخر سوى المفاضلة بين الموت، قتلاً أو جوعاً، أو الرحيل عن الوطن.
وقد تابع العالم كله في ذهول، وعلى الهواء مباشرة، حجم ونوعية الجرائم التي ارتكبها في حق الفلسطينيين على مدى ما يقرب من مئة عام، خصوصاً خلال الأشهر ال 21 الأخيرة، وهي جرائم لا تقل بشاعة عن “الهولوكوست” التي ارتكبها النظام النازي في ألمانيا ضد اليهود، قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة إلى الدول العربية المجاورة، فلا يقيم وزناً لا لأمن ولا لرفاهية هذه الدول. فسيناء بالنسبة إليه، رغم معاهدة السلام التي تربطه بمصر، ليست سوى حاضنة قابلة لامتصاص الكثافة السكانية المطلوب ترحيلها من قطاع غزة.
والأردن بالنسبة إليه، رغم معاهدة السلام التى تربطه به، ليست سوى وطن بديل للفلسطينيين، ومن ثم يصلح لتصفية القضية الفلسطينية. وإن استمرت العقلية الصهيونية تفكر بهذه الطريقة، فليس من المستبعد أن تقرر “إسرائيل” يوماً ما العودة لاحتلال سيناء، إذا لاحت أمامها فرصة لتنفيذ مشروع التوطين، أو الاستيلاء على الأردن، إذا لاحت أمامها فرصة لتمكين أحد الفرقاء الفلسطينيين من إعلان قيام دولة فلسطينية بديلة هناك.
الحقيقة الثانية: تتعلق بثبوت أهلية الشعب الفلسطيني وإصراره على التمسك بكامل حقوقه غير القابلة للتصرف وجدارته بالدفاع عن هذه الحقوق حتى لو تُرك وحيداً.
فقد أكدت هذه الجولة، وبما لا يدع مجالاً لأي شك، أن شعباً لم ينقطع نضاله على مدى قرن كامل من الزمان، ونجحت إحدى فصائله المسلحة في تخطيط وتنفيذ ملحمة بحجم “طوفان الأقصى”، ثم تمكنت مجتمعة من صمود أسطوري في وجه آلة الحرب الإسرائيلية لما يقرب من عامين كاملين، ونجح رجاله ونساؤه وأطفاله في صنع معجزة التمسك بالأرض، رغم حرب الإبادة والتجويع، قادر على صون حقوقه والدفاع عنها، حتى لو تُرك في ساحة القتال أو النضال وحيداً، وبالتالي فلن يكون بمقدور أحد تركيعه مهما طال الزمن.
الحقيقة الثالثة: تتعلق بإدراك جميع شعوب المنطقة خطورة المشروع الصهيوني واستحالة القبول بشروطه للتسوية. فقد أكدت هذه الجولة أيضاً، وبما لا يدع مجالاً لأي شك، أن هذا المشروع لا يبحث عن تعايش سلمي مع شعوب المنطقة، وإنما يسعى للهيمنة عليها وسلب مقدراتها، وبالتالي فلن يقبل بوجود أي دولة أخرى قوية في المنطقة، أياً كانت طبيعة نظامها الحاكم أو أطروحاته السياسية والفكرية، وأن وسيلته لتحقيق الهيمنة علي هذه الشعوب هو بث الفرقة وإثارة الفتن والنعرات الطائفية والقبلية بينها، أملاً في تحويل دول المنطقة كافة إلى كيانات صغيرة تُقام على أسس عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية.
وما يحدث في سوريا الآن خير دليل على هذه الحقيقة. صحيح أن شعوب هذه المنطقة لم تتحرك بما فيه الكفاية، سواء لنصرة الشعب الفلسطيني أم للاحتجاج على ما ارتكبه الكيان الصهيوني من مجازر بشعة، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه الشعوب، المغلوبة على أمرها والعاجزة عن التعبير بحرية عن رأيها ومشاعرها، ستقبل الاستمرار في لعبة التطبيع مع الكيان بعد توقف القتال.
الكرة الآن في ملعب الكيان، وما لم يتمكن هذا الكيان من إفراز نخبة حاكمة جديدة تقبل التعايش السلمي مع شعوب المنطقة وتحترم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، فلن تعرف المنطقة أمناً واستقراراً خلال العقود المقبلة، حتى لو تم التوصل في المستقبل القريب إلى وقف دائم أو مؤقت لإطلاق النار.