د. أيمن نور يكتب: السياسة المصرية … نص لم يكتمل.. أم مشهد بلا مؤلف؟

في ليلة الرابع والعشرين من يوليو، تعود السياسة المصرية لتشبه تلك النصوص التي كتبها شاعرٌ نائم، وصحا على بيتٍ لا يفهمه، فيحيله إلى قارئٍ مُنهك، يبحث عن تأويل، أو موطئ إصبع على خريطةٍ لا عنوان لها. كل شيء في المشهد يبدو كأنّه كتب بلغةٍ مشفّرة، بحروفٍ من غبار، ونقاطٍ تائهة بين السطور.
اللغة في مصر ليست مجرد أداة للتواصل، بل صارت وسيلة للإخفاء، فنًّا من فنون الحجب لا الكشف. كما لو أن السياسة عندنا كلمتان متجاورتان: “كفن” و”كفّ”، الأولى توحي بالنهاية، والثانية تتردّد بين المصافحة والصفعة. تلك هي مصر الرسمية، تمد يدها بحذر، وتُخفي قبضتها في جيب الكلام الغامض.
العلاقات بين مصر والإمارات نموذجٌ حيّ لهذه اللغة المزدوجة: شراكة تتحدث عن التماهي، بينما الواقع الإقليمي يعكس تضادًا صارخًا في الملف الليبي، والسوداني، والقطري، بل وحتى في نظرة كل طرف إلى مستقبل المنطقة. أهو توزيع أدوار؟ أم أن وراء الكواليس جمرًا يخاف أصحابه من نار ظهوره؟
أما العلاقات مع السعودية، فقد دخلت طورًا من التوتر العلني، غير مسبوق منذ سنوات عبد الناصر. ما بين برود سياسي، وتنمّر إعلامي متبادل، وأحاديث تُسرَّب ولا تُقال، يبدو المشهد وكأننا أمام فصل جديد من صراع العروش في المنطقة. تصريحات متشنجة، وتجاهل متبادل، ومحاولات تموضع خارج المعادلة التقليدية التي طالما جمعت القطبين العربيين الأكبرين.
ولعلّ اللافت أن الإعلام الرسمي بدأ يُلمّح إلى أن معسكرات تُديرها قوى مصرية معارضة جرى تصوير بعض أنشطتها داخل الأراضي السورية، ما فتح الباب لتكهنات متناقضة، خصوصًا بعد عودة ظهور أحمد المنصور، الذي قيل سابقًا إنه محتجز أو ممنوع من الظهور. هذه الرسائل المبطّنة، المُغلّفة بغلالة من “الإنكار الرسمي”، قد تكون تعبيرًا عن مأزقٍ أعمق في فهم المشهد الإقليمي ما بعد الثورة السورية، التي أربكت الحسابات، وأسقطت الأوهام، وأعادت رسم خرائط الاصطفاف.
وعلى الجبهة الداخلية، لا يبدو أن شيءًا قد تغيّر سوى في طريقة التسويق للوهم. تُجرى انتخابات لا يعرف أحد لها طعمًا ولا لونًا، تُدار على قاعدة “القائمة المطلقة”، حيث يُلغى الاختيار، وتُمنح الشرعية لفراغٍ تمثيلي بَعيدٍ عن الشارع ومشاكله. وما يسمى بـ”مجلس الشيوخ” لا يزال بلا مخالب ولا صلاحيات، كظلّ برلمانٍ لم يولد.
الإعلام المصري — ذلك الوجه الآخر للسلطة — لم يعد مرآة، بل صار ستارة. في لحظة، يُمنع برنامج إبراهيم عيسى، وفي لحظة تالية تُختفي لميس الحديدي عن الشاشة، دون تفسير أو إعلان. من يُقصى؟ ومن يُبقي؟ ومن يملك مفاتيح الصوت؟ يبدو المشهد كأننا أمام سطور تُكتب في غرفة مغلقة، لا يسمع صداها أحد، ولا يُراجِع قواعدها إلا من يملك السلطة لا القلم.
السياسة في مصر اليوم لا تُبنى على برامج، بل على إحالات لغوية. تشبه كلماتٍ تبدأ بحرف “النون”: “نظام، نفوذ، نفي، ندم”. لا أحد يعرف إن كنا في بداية الجملة، أم نهايتها، ولا إن كانت الجملة أصلاً من فعلٍ أم من مجهول!
وربما، يكون الحل أن نتعلّم من النحو ما عجزنا عن فهمه من النوايا. أن نعيد ترتيب السياسة على قاعدة لغوية بسيطة: “الفاعل لا يُخفي نفسه، والمفعول لا يُضرب ثم يُسكت”. أن نعيد كتابة الجملة المصرية بصيغة المبني للمعلوم، لا المبني للغموض.
في الرابع والعشرين من يوليو، لا ننتظر إجابات من السياسة، بل نبحث عن سؤالٍ صالح للطرح. عن نقطة نظام في خطاب بلا نظام. عن كلمة تُقال كما هي، دون رتوش، دون رموز، دون خوف من وضوح لا يحتمله الغامضون.
نعم، السياسة في مصر تُشبه متاهة الحروف. لكننا نعرف أن كل متاهة لها مخرج. فقط، لا بد أن نُضيء الكلمة… ونفتح النافذة… ونرفع الستار.