مصر

د. ناجي عبد الرحيم يكتب : مصر يوليو من التحرير إلى التدمير ..استراتيجية الانقلاب المستدام من 52 إلى 25

 استهلال

حين دوّى البيان الأول من إذاعة القاهرة فجر الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢، لم تكن مصر على موعد مع ثورة كما صوّرتها الدعاية الرسمية؛ بل كانت تتهيأ لحقبة طويلة من التغييب السياسي والعسكري، تمتد جذورها لا إلى عرش الملك فحسب، بل إلى بنيةٍ معرفيةٍ صنعت العدو أولًا، ثم .صنعت الانقلاب لتبرير وجوده واستدامة سلطانه

لقد رُوّج لليلة يوليو على أنها لحظة خلاص من الاستعمار والملكية؛ غير أن الاستبدال لم يكن في الجوهر، بل في الشكل فقط؛ خرجت القوات البريطانية من القصور، لتستقر داخل مؤسسات الدولة، وانتقل السلاح من صدور الثوار إلى يد الجنرال الذي احتكر القرار، وهمّش الشعب، .واستبدل برلمان الإرادة الوطنية بمجلس قيادة الثورة

استدلال..

من بيان التحرير إلى فقه الإخضاع

“لقد قُضي الأمر”؛ هكذا أرادها الضباط الأحرار؛ لم يأتِ يوليو كمحصلة صراع شعبي طبقي أو انتفاضة جماهيرية؛ بل كبيان عسكري صادر من غرفة مغلقة، احتكر أصحابه المشهد واحتكروا معه الذاكرة؛ ومنذ اللحظة الأولى، بدأ رسم ملامح مشروع لا يهدف إلى تأسيس الدولة، بل إلى احتكارها وتجريدها من معناها الشعبي والحقوقي؛

تمركزت السلطة في شخص الرئيس، وتحولت الدولة إلى أداة لإعادة إنتاج الطاعة؛ بينما تُدار السيادة بمنطق “العقيدة القتالية”: إما معنا أو ضدنا، إما الوطن أو الخيانة، إما الجنرال أو الفوضى؛ 

وفي هذا السياق، تشكل ما يمكن أن نسميه “عقل يوليو السلطوي”؛ عقل لا يعترف بالدولة كإطار مدني راشد، بل كغنيمة للجنرالات؛ عقل لا يفهم السياسة إلا بوصفها هندسة للهيمنة، ولا يرى المواطن إلا رعية يجب تأديبها بالبيادة وإخضاعها للولاء التام

استقراء

صناعة العدو: ديناميكيات الخوف بوصفه حاكمًا

لم تكن شرعية يوليو يومًا مؤسسة على رضى شعبي متجدد أو انتخابات حرة؛ بل كانت دائمًا بحاجة إلى “عدو” تُوجَّه إليه البندقية وتُوجَّه عبره الدعاية والذعر؛ وهكذا، بدأت آلة يوليو باختراع سلسلة من الخصوم المتوالين: من الإقطاعيين إلى الإخوان، من المثقفين إلى القضاة، من المعارضين إلى كل صاحب رأي خارج طابور الاصطفاف خلف البجباشي او الجنرال؛ 

هذه الديناميكية لم تكن مصرية فقط؛ بل تكررت بذات النمط في دول الارتباط الجغرافي والسياسي: سوريا ١٩٦٣، ليبيا ١٩٦٩، السودان في سلسلة انقلابات لا تنتهي، وتونس مؤخرًا بصيغة دستورية تتستر برداء القانون، وهي في جوهرها تكرار لتكتيك “العدو المصنوع” لإنتاج الحاجة الدائمة إلى المستبد المنقذ

والنتيجة دائمًا واحدة: مجتمع مشلول، نخبة مستأنسة، وشعب محروم من امتلاك أدوات التغيير.

استدراك…

من الملك إلى الكيان: تحوّل الشخص إلى بنية

في الدولة الديمقراطية، الملك أو الرئيس هو موظف عند الأمة؛ أما في ظل عقل يوليو، فالفرد يتحول إلى رمز مقدّس، وتُصاغ من حوله سردية دينية – سياسية تُحوّله إلى كيان غير قابل للمساءلة أو التحدي؛ عبد الناصر لم يكن فقط رئيسًا، بل رسولا للثورة؛ والسادات كان عبقري العبور والسلام؛ ومبارك كان “صاحب أول ضربة والأب الحامي” للوطن.

ومع السيسي، بلغ النموذج ذروته؛ صار الجنرال هو الوطن، وانتقلت المعادلة من “أنا أو الفوضى” إلى “أنا والدولة سواء”؛ في هذا السياق، يُقتل الدستور، ويُؤمم البرلمان، وتُعلّب الصحافة، وتُختزل الدولة كلها في ظل رجلٍ واحد… لا يُسأل عمّا يفعل، وفي احتراق السلطة كان هو القدوة ، حين اشتعل قلب العاصمة ، لتكون الكارثة :

لم يصدر خطاب طوارئ رسمي، لم تُفعَّل خطط الاستجابة السريعة ولا الدفاع الرقمي، ولا الإعلان عن مستوى من حالة الطوارئ المفروضة على الشعب منذ عقود.

• لم يتم إغلاق المعابر والمنافذ البرية والبحرية والجوية، مما يضع البلاد في مرمى الاختراق في الدخول، أو السرقات والهروب في الخروج، في ظل سقوط أنظمة الاتصال والتواصل في المعابر والمنافذ.

• فقط تم تسريب صمتٍ كامل من القيادات الأمنية والعسكرية، وتسجيل انشغال بتعظيم واردات الصناديق الموازية تارة، وبخروج المتحدث الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء تارة أخرى للرد على تصريح عن بيع أرض في الساحل الشمالي في برودكاست! دون الإعلان عن اعتذار لشعب، وتحرير العقول من أقبية المعتقلات والسجون، وبناء حقيقي لمنظومة الأمن والتأمين والحماية، بالكفاءات الوطنية المعتقلة من علماء وأساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ومحامين وحقوقيين، ومجلس شعب منتخب ووزراء دولة وحكومة.

فالخطر المحدق بمصر يكمن في انهيار أدوات السيطرة المركزية، وهو ما يشير إلى فشل هيكلي لا ظرفي، ويُذكّر بنمط الانهيارات التي سبقت سقوط أنظمة مركزية في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية في تسعينيات القرن الماضي.

عالمية يوليو : الأسطول الأمريكي والشبكة المالية

لم يعد انقلاب يوليو معزولًا في الجغرافيا؛ بل تحول إلى عقد وظيفي في شبكة دولية من المصالح والإخضاع والتأمين المتبادل؛ فمن معبر رفح إلى قاعدة برنيس، ومن الحدود الليبية إلى اختراق المياه الإقليمية في البحر الأحمر، ومن التمويل الخليجي إلى صندوق النقد، لم تعد السيادة قرارًا وطنيًا؛ بل بندًا تفاوضيًا

لقد شهدت مصر مؤخرًا مزيجًا خطيرًا من العسكرة السياسية والاختراق الاقتصادي:

• وصول حاملة الطائرات الأمريكية “USS Gerald R. Ford” إلى المياه الإقليمية.

• تمركز القوات الغربية على حدود فلسطين المحتلة.

• تجويع الجوار وأهل القيم والحقوق في غزة تحت حراسة عسكر مصر.

• التحكم الاسرائيلي الكامل في المعابر (رفح، كرم أبو سالم).

• تحوّل الجنيه المصري إلى أداة ضغط مرتبطة بالدولار.

• تغول الجمارك كأداة خنق اقتصادي وسياسي.

• انتهاك ممنهج للسيادة الاقتصادية عبر “الشراكات الاستراتيجية” التي تعني عمليًا بيع أصول الدولة للمجهول الوظيفي.

وهكذا، فإن ما بدأ بانقلاب يوليو… يتحول إلى نموذج عالمي للسيطرة غير المرئية: السلاح في يد الداخل، ولكن القرار بيد الخارج.

استشراف …

من الانقلاب إلى المعرفة: الطريق إلى التحرر

يخطئ من يظن أن الانقلاب يُسقط فقط الحكومات؛ إنه يُسقط الوعي، ويعطب المفاهيم، ويصادر الذاكرة الوطنية؛ ولهذا، فإن المقاومة تبدأ من استرداد المعرفة؛ مقاومة يوليو اليوم لا تكون بالبندقية بل بالقلم، بالوعي، بإعادة كتابة التاريخ من منظور الشعوب لا من منظور البيانات العسكرية

إن تحليل عقل يوليو يبدأ بفهم أدواته:

  • • شيطنة المختلف
  • • عسكرة الحياة العامة
  • • تجهيل الشعوب
  • • تأليه السلطة

ويستكمل بالاشتباك المعرفي مع هذه الأدوات: بالتعليم، بالتاريخ الحقيقي، بالوعي، بالاقتصاد البديل، بصناعة سردية وطنية لا تدور في فلك الجنرال، ولا تنحني أمام بيانات الطوارئ.

:في كلمات  

لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح وسداد:

“ما أُخذ باسم الشعب لا يُمكن أن يُحكم ضده، وما أُدير باسم الثورة لا يجب أن يُبقي على الاستبداد”

يوليو لم يكن قدرًا، والانقلاب ليس طبيعة عربية، والتحرر لا يكون إلا عندما تدرك الشعوب أن الخلاص لا يأتي من بيانات الفجر؛ بل من وعي الظهيرة، من ثورة لا تهدم فقط تماثيل الماضي؛ بل تؤسس لوعيٍ جديد، عنوانه:

“الدولة ليست البيادة، والسلطة ليست الميراث، والوطن ليس الجنرال… وللشعب سيادة .. والأيام دول ، والقرار للشعوب .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى