
حين كنت طالبًا فى المدرسة والجامعة، كنا متأثرين بدور مصر الإقليمى والإفريقى، ونحلم بعروبة تتجاوز الحدود، تتحدث بلسانٍ واحد وتدافع عن كرامة الإنسان العربى.
بعد هزيمة ٦٧، واكتشافنا هشاشة نظامنا، وأننا كنا مخدوعين بأهازيج قوة لم تكن حقيقية، تغير حال الشباب المصرى بعد صدمة إفاقة.
وحتى فى ذلك الحين بقيت مصر هى القائد والمؤثر إقليميا ولم يجرؤ أحد على التفكيير فى إزاحتها من موقعها.
بعد نصر أكتوبر ٧٣ وهو ما يسجله التاريخ كأول نصر عسكرى مصرى على إسرائيل وأسميناه النصر العربى، وبعد مفاوضات كامب ديفيد عادت سيناء كاملة إلى مصر، إلا أن العالم العربى قاطع مصر ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
عادت الجامعة العربية إلى مقرها، المقرر فى ميثاقها إلى القاهرة فى عام ١٩٩٠.
أى ظل مقر الجامعة فى مصر بعد الهزيمة وانتقل منها بعد النصر، ألا يدل ذلك على اختلال المعايير.
الآن فى زمنٍ يُعاد فيه رسم خرائط النفوذ، ويتداخل فيه الرمز بالمصلحة، يُطرح سؤالٌ يبدو بسيطًا، لكنه يمس جوهر الهوية والمكانة:
هل نصنع حاضرنا انطلاقًا من تاريخنا؟ أم علينا أن نصنع حاضرًا جديدًا ليُكتب لنا تاريخ جديد؟
وهل يكفى أن تكون لنا ذاكرة حضارية ممتدة لآلاف السنين، لنضمن استمرار مركزية الدور؟ أم أن الفاعلية فى الحاضر، وحدها، هى التى تُبقى للدول مكانتها بين الأمم؟
أتابع النقاش المتوتر حول قيادة الشرق الأوسط، ولا أراه مجرد جدل سياسى، بل أسمع أصوات أسئلة أعمق.
الغضب المصرى طبيعى، فقيادة مصر للعالم العربى لم تكن مجرد عنوان جغرافى، بل اعترافًا بدور مصر التاريخى فى قيادة العمل العربى المشترك. وفى المقابل، تبدو الدعوات الجديدة تعبيرًا عن طموح سياسى ودبلوماسى، يرتكز على دور متصاعد فى ملفات الإقليم لدول أخرى أكثر غنى وأقوى اقتصاداً اعتماداً على ثروة بترولية كبيرة.
لكن هل يُقاس الدور التاريخى بالذكريات، أم بالقدرة على التأثير الآنى؟ وهل الخوف من فقدان القيادة هو خوف من فقدان الموقع، أم من غياب الفعل؟
صحيح أن حدثا كافتتاح المتحف المصرى الكبير، يذّكر العالم أن ليس هناك مثل مصر فى حضارة الإنسانية ولكن التاريخ كذاكرة لا يصنع وحده المستقبل، وليس عصا سحرية تفرض الحاضر أو تضمن ما سيكون.
كثير من الأمم التى كان لها مجدٌ عظيم تحوّلت إلى كيانات هامشية حين اكتفت بالتغنى بأمجادها، ولم تُجدد أدواتها أو تُجابه تحديات عصرها.
مصر، بتاريخها الفارع، لا ينازعها أحد فى عمقها الحضارى أو دورها فى التأسيس لمعظم الهياكل الجامعة فى الإقليم: من الجامعة العربية، إلى منظمة الوحدة الإفريقية، إلى حركة عدم الانحياز.
لكن السؤال المؤلم هو: لماذا تراجع الحضور المصرى إقليمياً ودولياً؟؟؟
فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، لم يكن مقر الجامعة العربية مجرد مبنى فى القاهرة، بل كان امتدادًا لصوت سياسى وفكرى وقيادى قوى. كان وجودها فى مصر نتيجة طبيعية لحالة إجماع عربى على مركزية القاهرة، لا فقط لأن بها الأزهر أو الأهرامات، والتاريخ، ليس فقط لأنها كانت منارة الحضارة والتنوير، ولا لأن معلميها ومهندسيها وأطباءها كانوا وقود صناعة حاضر العالم العربى بل أيضاً لأنها كانت تُعبّر عن حلم عربى جامع، وتملك أدوات التأثير.
لكن منذ الغزو الأمريكى للعراق، ومرورًا باضطرابات ٢٠١١، تراجع دور مصر، وتراجع التأثير فى الملفات العربية، ليحل محله فاعلون جدد يملكون المال والإعلام، وأحيانًا طموحات صريحة فى قيادة الإقليم.
لكن هل انتقال المفاوضات من القاهرة إلى قطر أو السعودية أهم من التأثير؟ وهل الأزمة فى المكان أم فى غياب المبادرة المصرية؟
الحقيقة أن حتى الجامعة العربية نفسها باتت كيانًا هشًا، والانتقال المحتمل للمقر الذى يدور أحياناً وراء الستار، قد يكون مجرد انعكاس لتغيرات تكنولوجية وأمنية تتيح نقل المركز افتراضيًا، لا جغرافيًا فقط.
الغضب المصرى الشعبى من فكرة تهميش مصر مفهوم ومشروع، لكنه لا يجب أن يتحول إلى مرارة أو إنكار للواقع. ولا عندما تعود الأمور إلى مصر نتيجة لظروف قاهرةً معناه عودة القيادة.
الطموح السعودى فى المقابل ليس غريبًا، بل يعكس رؤية جريئة لدور جديد للمملكة فى السياسة والثقافة والاقتصاد، وهو طموح مشروع لأى دولة.
لكنّ بين الغضب والطموح، يجب أن تكون هناك رؤية عقلانية:
كيف تستعيد مصر زمام المبادرة؟ هل الحل فى الدفاع عن المقر، أم فى صناعة مشروع فكرى وثقافى وإنسانى عربى جديد تنطلق قيادته من مصر؟
التاريخ المصرى لا يُشترى ولا يُزوّر. لكنه لا يكفى وحده.
إنّ من صنع التاريخ، قادر على صنع المستقبل… بشرط أن يؤمن بنفسه، ويُدير حاضره بحكمة وشجاعة، وينهض بمؤسساته، ويستثمر فى شبابه، وينفتح على العصر.
وهنا نعيد طرح السؤال:
هل يصنع التاريخ حاضر مصر؟ أم أن حاضرها وحده هو القادر على صنع تاريخ جديد؟
الإجابة ليست فى ردّ فعل غاضب، بل فى فعلٍ إيجابى يعيد لمصر دورها لا بالكلمات… بل بالفعل الإيجابى وليس الفعل الناتج من عدم وجود بدائل لدى دول المنطقة وإسرائيل والغرب.
مصر ليست مجرد أرشيف تاريخى، هى روح تتنفس فى كل عربى حين يسمع صوت أم كلثوم، ويقرأ نجيب محفوظ، وطه حسين والعقاد وأحمد شوقى، ويشاهد الفيلم السينمائى المصرى ويسميه الفيلم العربى، ويسمى النقود «مصارى» ويستظل بفكرة العدالة التى خرج بها المصريون إلى وجدان العالم العربى من محمد عبده إلى سعد زغلول.
قد تتغير المقرات، وتنتقل المؤسسات، ويتبدل النفوذ، لكن ما لا يتغير هو القيمة التى تَمنحها الشعوب لنفسها ولأوطانها.
فإنْ كنا نؤمن بأننا أصحاب رسالة لا موقع فقط، وأصحاب فعل وعندنا ميزة الإرث، الذى لا يوجد لدى غيرنا، فإن حاضر مصر – مهما كان معقدًا – يمكنه أن يُعيد رسم التاريخ، لا أن يظل أسيرًا له.
نحتاج فقط إلى وعى… وإرادة…وإدارة، ونظرة إلى الأمام لا إلى الوراءً واعتماد على موارد قوتنا من الشباب المتعلم.






