مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: صمتُ العقلاءِ في زمنِ الضجيج



هناك لحظاتٍ يعلو فيها صراخُ الحناجر على صوتِ الفكرة، ويُقاسُ الحضورُ السياسي بعلوّ النبرة لا بعمقِ الرؤية، فيُصبح الصمتُ قراراً مُربكاً،ولكنه ضرورة.
بين جدرانِ الاجتماعات، السياسية والإعلامية، اجد نفسي كل مرة امام مساحاتٍ مزدحمةٍ من الادعاء، والبطولات المزيفة. أحيانا يُطلّ العاقلُ كغريبٍ يتأمل ضوضاء القبيلة ، ولا يشاركها الرقص حول النار.

اصمت في بعض هذه اللقاءات ليس تراجعاً، بل تَرفُّعٌا ،عن إسفافٍ يُخشى أن تُبدد فيه الحقيقة أو تُشوّه.او يفسر كلامي بنحو تأمري يغلب سوء الظن.
حين يختارُ العقلاني الصمت، لا يفعل ذلك انكساراً،
بل ليدافع عن كرامة العقل في زمنٍ تُهان فيه الأفكار إذا لم تَعلُ على موجة التهييج.

الصمتُ احيانا ، ليس موقفاً سلبياً، بل فعلُ مقاومةٍ ناعم، يَمنعُ العقلانية من التلوث بروائح الشعبوية التي تُغرِق القاعات وتُضلل العقول.وتستهوي قطاعا من النخب
السياسية والإعلامية والثقافية المغشوشة.
ما يُؤسَف له أن كثيراً من أبناء النخبة – في السلطة والمعارضة سواء – لا يفرّقون بين ما هو “شعبي” نابع من احتكاكٍ نبيلٍ بالشارع، وبين ما هو “شعبوي” رخيصةٍ تُراهن على تحفيز الغرائز وتُقصي العقل عن المشهد.

من قله الفهم يُغدق بعضهم بهذا الوصف (الشعبوي) على مَن يُثير الانفعال أو يلهب الجماهير، او يجذب المشاهدين،ظنًا أنه منه أنه مدح، وهو – في حقيقته – قدحٌ وإدانة كبيرة لو يعلمون.
الشعبوية ليست امتداداً وصفيا للناس، والشعوب، بل قفزٌا فوق عقولهم. ليست حديثًا باسم الجماهير، بل ارتكازٌ على هواجسهم ومخاوفهم وتغذيتها.


”الشعبوية ”هي نقيضُ ”العقلانية ”
التي لا تُنافقُ الجموع، بل تحاورها وتدعوها للوعي والتمييز، لا للاندفاع والغوغائية.
هذا ما يُبرزه المفكر ستيفن بينكر في كتابه الفذّ “Rationality: What It Is, Why It Seems Scarce, Why It Matters”، حيثُ يؤكد أن العقلانية ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية.
ويُعرّفها بأنها القدرة على استخدام الأدلة والمنطق للوصول إلى قراراتٍ رشيدة، ويكشف كيف أن الإنسان – رغم امتلاكه العقل – يقعُ بسهولة في مصائد التحيّز، ويستسلم للعاطفة، ويُحب أن يُخدع حين يكون الوهمُ أكثر راحةً من الحقيقة.


العقلانية، كما يراها بينكر، لا تقتصر على الفلاسفة أو العلماء، بل هي أداة بقاء. تساعد الأفراد والمجتمعات على التمييز بين القرارات البسيطة والقرارات المصيرية. وتُصبح أشدُّ أهميةً حين تُمسك الجماهير أوراق الاقتراع أو تخرج إلى الميادين.


العقلانية كما افهمها ليست نقيضا للثوريه ، ولا مرادفا للخنوع والاستسلام ولا العكس صحيح؟ نعم الشعبوية قد تُشعل الحماس لكنها تُقصي الأسئلة.
والعقلانية قد تُهدّئ الاندفاع وتطرح المراجعة.
الأولى تسير بسرعةٍ نحو المجهول، والثانية تُفتّش عن الطريق وتُمعنُ النظر في الخرائط واللافتات.
الأولى تصرخ لتُسمع،
والثانية تُفكر لتفهم.


هذه السطور ليست طرفا فكريا وحزلقه سياسية بل هي رسالة شخصية للرفقاء في السياسة والإعلام
ليست هذه معركةَ مفاهيمٍ فحسب، بل معركةُ مصير. مجتمعٌ تُديره الشعبوية يُنتج قراراتٍ كارثية، وواقعًا يُخدّر الجماهير بشعاراتٍ لا تملك حلولًا.

أما مجتمعٌ يقوده العقل، فيُحاور نفسه، ويُخطئ ويتراجع، ويخطو نحو إصلاحٍ حقيقيٍّ لا يعتمد على التصفيق وليكات السوشيل ، بل على الإقناع.
في هذا الزمن السائل، تتراجع الفواصل بين الصدق والزيف،
ويُصبح الحقُّ نسبيًا في نظر المُصفقين،
فلا بدّ من التمسك بالعقلانية كطوق نجاة.

هذا ليس نداء نُخبويًا متعالياً، بل صرخة ضمير في وجهِ زمنٍ يُكافئ الضجيج ويُعاقب الحكمة.
ما أحوجَنا إلى النُخب التي تُجيد الصمت الحكيم لا صمتَ الخوف،
وتُمارس التفكير لا التلقين،
وتُبشّر بالعقل لا بالغضب.
ما أحوجَنا إلى أن نُعيد تعريفَ الشجاعة: لا بوصفها قدرةً على الصياح، والسب،
بل التمسك بالفكرة في وجه الريح.
فلتكن العقلانية هي الفريضة الغائبة لهذا الزمن.
فلتكن هي الصخرة التي تتحطم عليها أمواج الشعبوية.
فلنُعيد للسياسة والإعلام، معناها الأصيل:
إدارة العقول لا استغلال الغرائز.
فالمستقبل لا يصنعه الصوت الأعلى،
بل الفكر، انظرو لصور هذه الرموز الملحقة بالمقال
لربما جسدت معنيّ العقلانية علي نحو ابلغ
من كل السطور السابقة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى