
في لحظات التحول الكبرى التي شهدها التاريخ، لم تكن النهضات الحقيقية وليدة قرارات فوقية أو مشاريع عمرانية ضخمة، بل كانت نتيجة تحرير العقل البشري من الخوف والجمود والتلقين.
فحين يتحرر العقل، ينطلق الإنسان، وتُبنى الأوطان، وتُصنع الحضارات.
أما حين يُقيَّد العقل، ويُكبَّل التفكير، ويُحتقَر التعليم، فكل ما يُبنى فوق هذه الأرض هشّ، قابل للانهيار عند أول اختبار.
لهذا، فإن أولى معارك النهوض في مصر اليوم ليست اقتصادية ولا سياسية فقط، بل هي معركة تحرير التعليم من التلقين، وتحرير العقل من الخوف، وتحرير الإنسان من ثقافة الطاعة العمياء.
أولًا: تعليم يُنتج الطاعة لا الفهم… فكيف نبني نهضة؟
منظومة التعليم في مصر – رغم محاولات الترقيع – لا تزال أسيرة نموذج عفا عليه الزمن.
مناهج جامدة، بيئة خانقة، امتحانات عقيمة، معلم مغلوب، وطلاب يشعرون أن ما يتعلّمونه لا علاقة له بالحياة.
نحن أمام نظام تعليمي يُفرغ الطالب من أدوات الفهم، ويُدرّبه على الحفظ والتكرار، ويربّيه على الخوف لا الجرأة، وعلى التبعية لا المبادرة.
فلا عجب أن تجد آلاف الخريجين عاجزين عن التعبير، أو اتخاذ قرار، أو امتلاك رؤية، لأن المدرسة لم تُعلّمه أن يفكّر، بل درّبته على أن يُصغي فقط.
ثانيًا: النظام الحاكم… المسؤول الأول عن تخريب التعليم
رغم أن المجتمع والأسرة يتحملان جزءًا من مسؤولية الأزمة، فإن الخلل الجذري في التعليم مصدره السياسات الرسمية الحاكمة، لا سيما تلك التي تعاملت مع التعليم كملف ثانوي، أو وسيلة لضبط المجتمع لا لبنائه.
لقد حكمت السلطة على التعليم المصري بأن يبقى في خانة “الإبقاء على الجهل المُنظَّم”، فتم تهميش العقل، ومطاردة الفكر، وقتل الإبداع في مهده.
المعلم يُعامل كمجرد موظف بيروقراطي، يُنهك بالروتين ولا يُكافأ على التميّز.
الطالب يُربّى على الصمت والخضوع.
والمناهج تُفرَغ من أي محتوى يُحرّك التفكير أو يثير السؤال.
بل إن التعليم أصبح وسيلة لتكريس الفروق الطبقية، فهناك تعليم خاص للنخبة، وتعليم متهالك لبقية الشعب، ما يخلق انقسامًا معرفيًا خطيرًا يُهدّد تماسك المجتمع على المدى البعيد.
ثالثًا: حين تتحوّل العقول إلى متّهمين… تذبل الأمم وتنطفئ شعلة المستقبل
من أخطر ما فعله النظام القائم أنه حوّل التعليم من مساحة للحرية إلى أداة قمع، ومن منصة للإبداع إلى ميدان للولاء والانبطاح.
كم من طالب متفوّق حُرم من التعيين لأنه لا يمتلك “واسطة”!
كم من أستاذ جامعي جرى تهميشه أو وصمه بالجنون لأنه عبّر عن رأيه الحرّ؟
كم من معلمٍ أو عالمٍ أو باحثٍ انتهى به المطاف في السجون والمعتقلات لمجرد أن صوته خرج عن المألوف؟
إن العقول تُطارد، والمبدعين يُنبذون، والمفكرين يُحاصرون، لا لأنهم فشلوا، بل لأنهم ناجحون، ونجاحهم يزعج منظومة لا تؤمن إلا بالخضوع.
وهكذا، أصبحت الهجرة خيارًا وحيدًا أمام الكثير من العقول النبيلة، لأن الوطن لم يعد يفتح ذراعيه لهم، بل يضيق بهم، ويستبدلهم بأبناء المحسوبيات وأصحاب النفوذ وإن كانوا جهّالًا.
فكيف لأمة تفعل ذلك بأبنائها أن تنهض؟ وكيف يمكن أن نبني حضارة في وطن يُعامل عقوله كأعداء؟
إن هذا الواقع لا يُمكن أن يتغير إلا بتغيير عميق في المنظومة… وإن لم يكن له سبيل إلا بتغيير النظام نفسه، فليكن ذلك.
رابعًا: في الدول المتقدمة… التعليم استثمار في الإنسان لا أداة للسيطرة
في المقابل، حين تنظر إلى الدول التي سبقتنا، تجد أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو احترامها للعقل البشري، واستثمارها في التعليم.
هناك، تُخصص الميزانيات الكبرى للمدارس والجامعات، وتُعطى الأولوية للتدريب والتطوير، وتُصمَّم المناهج لتلبية احتياجات المستقبل.
المعلم هناك مُكرَّم، لا مهدَّد.
الطالب شريك في العملية التعليمية، لا متلقٍ صامت.
والعقول تُحتضن وتُستثمر، لا تُقمع وتُدفن.
فهل نعجب بعد ذلك أن تلك الأمم تتقدّم وتبدع وتبني، ونحن نراوح مكاننا؟
الفرق ليس في الموارد… بل في الفهم:
هم يحرّرون العقل… ونحن نكبّله.
هم يزرعون الوعي… ونحن نقتله باسم الأمن.
خامسًا: كيف نبدأ من جديد؟ خارطة طريق لتحرير التعليم
إذا أردنا بناء تعليم يُحرّر الإنسان بدل أن يُدجّنه، فلابد من السير في خمس مسارات مترابطة:
1. تغيير فلسفة التعليم جذريًا
من التلقين إلى التفكير، ومن الحشو إلى التحليل، ومن الطاعة إلى المبادرة.
2. مناهج تحيي الهوية وتُواكب العصر
تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتُدرّب الطلاب على المهارات لا الحفظ.
3. معلم مؤهل ومحترم
يلقى التدريب اللائق، والدخل العادل، والمكانة الاجتماعية التي تليق برسالته.
4. بيئة مدرسية تُطلق الطاقات
تشجع الحوار، وتحترم الاختلاف، وتُنمّي الانتماء والقيادة.
5. ربط التعليم بالعمل والحياة
من خلال التدريب المهني، والمشروعات الريادية، والتعليم الفني الحديث.
خاتمة: لن ننهض إلا إذا حررنا العقول… وغيّرنا من يقيّدها
نهضة مصر الحقيقية لا تبدأ من المشروعات الخرسانية، ولا من القصور الفخمة… بل من المدرسة، من الفصل، من عقل الطفل الذي يتعلّم اليوم كيف يسأل، وكيف يفكّر، وكيف يعمل.
وإن لم نحرّر التعليم من قيود التلقين والتسلّط والتمييز…
وإن لم نُعدّ للمعلم مكانته، وللطالب حريته، وللمعرفة قداستها…
فكل حديث عن التقدم سيكون زيفًا لا يصمد أمام الحقائق.
ولهذا، فإن تحرير العقل هو الفرض العاجل، والتحدي الأكبر،
ومن تحرير التعليم تبدأ الجمهورية الحقيقية، لا جمهورية اللافتات.