مقالات وآراء

إسلام الغمري يكتب: من اقتصاد الاستدانة إلى سيادة الإنتاج… هكذا تُبنى الأوطان

تمهيد: حين يُرهن الوطن مقابل القروض

لم تكن الأزمة الاقتصادية في مصر يومًا ناتجة عن شحّ الموارد أو الظروف الدولية فقط، بل هي ثمرة مسار سياسي واقتصادي قائم على الارتهان لا السيادة، وعلى الجباية لا الإنتاج، وعلى الاستعراض لا البناء.

منذ صيف 2013، تسارعت خطوات عسكرة الاقتصاد، كما عُسكرت من قبله السياسة والإعلام، فانقلبت الأولويات، وغابت الشفافية، وتحوّل الوطن إلى رهينة لديون لا تتوقف، ومشروعات لا تنتج، وشعارات لا تُشبع جائعًا.

وبينما كان الدولار في حدود 7 جنيهات، تجاوز اليوم حاجز الخمسين، دون أن يقابله أيّ تحسين ملموس في حياة المواطن، الذي بات يُطارد لقمة العيش، وتُفرض عليه الضرائب والرسوم من كل اتجاه، بينما تتراكم القصور، وتُباع الأصول، وتُرهن الأراضي تحت مسمى “الاستثمار”.

أولًا: حين تتحوّل الديون من أداة إلى نمط حكم

ليست المشكلة في الاستدانة في حدّ ذاتها، بل في تحوّلها إلى ركيزة حكم، لا أداة طارئة.

فالقروض اليوم لا تُوجَّه لتطوير الصناعة أو الزراعة أو التعليم، بل تُهدر في مشروعات استعراضية مركزية، تُدار خارج نطاق الشفافية، وتُنفذها جهات لا تخضع لرقابة حقيقية، وتُثقل كاهل الدولة بفوائد وفواتير لا تنتهي.

وفي كل مرة، يُقال للمصريين إن هذه القروض “ضرورة”، وإن “الوضع تحت السيطرة”، بينما الحقيقة أن القرار الوطني نفسه يُقايَض بشروط صندوق النقد ومطالب المانحين.

وهكذا تتحول الدولة من فاعل مستقل إلى منفّذ لإملاءات الخارج، وتُدفَع كُلفة ذلك من جيب المواطن الفقير لا من قصور المسؤولين.

ثانيًا: لا عدالة في اقتصاد الجباية والاستبعاد

الاقتصاد ليس جداول مالية فقط، بل هو انعكاس لفلسفة الحكم: من تُريد الدولة أن تخدم؟ ومن تُريد أن تُقصي؟
في النموذج القائم، لا تُدار الدولة لخدمة المجتمع، بل لإبقاء النظام.

وهكذا تُمنح الامتيازات للمقرّبين، وتُقصى الكفاءات، ويُسحق المواطن البسيط بسياسات تقشفية، وموجات متلاحقة من الضرائب ورفع الدعم وزيادة الأسعار.

لم يعد للمواطن نصيبٌ من ثروة بلاده، ولا حتى من كرامة العيش. تآكلت الطبقة الوسطى، وانحدرت نسبة كبيرة من السكان إلى ما تحت خط الفقر، وانتشرت مظاهر لا تليق ببلد بحجم مصر: مواطنون يبحثون عن الطعام في القمامة، وآخرون يُقدِمون على الانتحار لعجزهم عن إعالة أسرهم، بينما يواصل الإعلام الرسمي تزييف الواقع وترويج الأمل الزائف.

ثالثًا: اقتصاد لا يُنتج إلا الفقر… ولا يُوظّف إلا المحسوبين

الخلل لا يتوقف عند حدّ الجباية أو غلاء المعيشة، بل يتعمّق في بنية سوق العمل وآليات التوظيف والإنتاج.

فالمرتبات الحقيقية فقدت قيمتها بفعل التضخم، ولم تعد تكفي لسدّ الحاجات الأساسية. ومع توسّع الاستيراد وانكماش الإنتاج المحلي، تقلّصت فرص العمل، وازدادت البطالة، خاصة بين الشباب والخريجين.

أما التوظيف، فقد غابت عنه معايير الجدارة والكفاءة، لتحلّ محلها شبكات المحسوبية والولاءات، حتى صار كثير من المصريين على قناعة أن لا مستقبل في وطنهم ما لم يكونوا من “أهل الثقة”.

وتحت هذا النموذج، هاجرت العقول، وأُقصي المهنيون، وتُركت الجامعات تُخرّج آلاف العاطلين كل عام، بلا أفق أو أمل، بينما تُوزّع المناصب والفرص والمناقصات داخل دوائر مغلقة من النفوذ.

رابعًا: الاستدانة لا تُطعم الفقراء… بل تدفعهم إلى اليأس

ما جدوى مئات المليارات من القروض إذا كان الفقير لا يجد الدواء؟
ما فائدة المؤتمرات الدولية إذا كان آلاف الشباب على الأرصفة بلا عمل؟
ما معنى الحديث عن “تنمية” فيما تُباع أصول الدولة، وتُرهن موانئها وأراضيها، ويُقايض حاضرها مقابل عُملة صعبة تُنفق على مشروعات استعراضية؟

إنّ الاستدانة بلا إنتاج لا تخلق تنمية، بل تخلق أزمات مضاعفة. وهي لا تحلّ المشاكل، بل تؤجلها مع تضخيمها، وتُضيف إلى الفقر قيدًا جديدًا: فقدان الإرادة.

وقد صار واضحًا أن القروض في هذا النموذج لا تُستخدم لبناء الإنسان، بل لترسيخ السلطة، وإطالة أمد السيطرة، وإخفاء العجز تحت أكوام الإسمنت والبذخ الإعلامي.

خامسًا: من التبعية إلى الإنتاج… هكذا تُستعاد السيادة

الحل لا يكمن في قرض جديد، ولا في صفقة بيع أخرى، بل في تحوّل جذري نحو اقتصاد وطني منتج ومستقل، يضع:
1. الإنسان في قلب التنمية لا على هامشها، ويعيد توزيع الثروة بعدالة.
2. الشفافية في إدارة المال العام، والمساءلة أمام برلمان حقيقي وإعلام حر.
3. تحرير الاقتصاد من قبضة الاحتكار العسكري، وفتح المجال أمام القطاع الخاص والكفاءات المستقلة.
4. دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها المحرك الأهم لسوق العمل، والأكثر قدرة على خلق فرص حقيقية.
5. إعادة هيكلة التعليم الفني والتقني، بما يخدم السوق ويُعزّز الإنتاج بدل تخريج جيوش من العاطلين.

سادسًا: القوى الوطنية… هل نملك البديل؟

التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في فضح الواقع، بل في امتلاك رؤية بديلة ومشروع متكامل.

فلا نهضة بلا اقتصاد، ولا اقتصاد بلا حرية، ولا حرية في ظل تبعية القرار.

إن القوى الوطنية الراشدة مطالَبة اليوم بطرح نموذج جديد يقوم على:
• الاعتماد على الذات لا الارتهان للخارج،
• الكفاءة لا الولاء،
• المساءلة لا الحصانة،
• الإنسان لا الأرقام المجردة.

ولا يمكن لهذا النموذج أن يُطبّق إلا في بيئة سياسية تسمح بالمشاركة الشعبية، وتداول المعلومات، وتوزيع الفرص بعدالة، بعيدًا عن السجون المغلقة والمنصات المأجورة.

خاتمة: الكرامة لا تُستورد… والسيادة لا تُشترى

لقد أثبتت التجربة أن النظام القائم استنفد كل محاولات الإصلاح، بل حوّل الأزمة إلى بنية، والانهيار إلى عادة، والفشل إلى سياسة.

ولذلك فإن أي حديث عن الإنقاذ دون تغيير هذا النموذج هو وهم مؤجّل، ومأساة معلّقة.

إن مصر لا تحتاج إلى قرض جديد، بل إلى إرادة جديدة.

لا تحتاج إلى “مشروع قومي” دعائي، بل إلى مشروع إنتاجي يكرّم المواطن، ويُعيد للوطن قراره، ويضع المصري في قلب معادلة التنمية لا على هامشها.

هكذا فقط تُبنى الأوطان… وهكذا تبدأ النهضة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى