
التطوع هو أن يكرّس الإنسان وقته وجهده ويقدّم مهاراته للآخرين دون أن يكون ذلك واجبًا عليه ودون انتظار مقابل مادي.
وبما أن الإنسان كائن يعيش في جماعة، فهو بحاجة إلى غيره، وتلبية احتياجات الآخرين تُسهم في تيسير الحياة. غير أن الثقافة الرأسمالية الحديثة تدفع الناس إلى الأنانية والسعي وراء المصالح الشخصية بدلاً من تغليب المصلحة الجماعية. لكن الإسلام يشجع على التطوع، كما أن الحياة المعاصرة في أمسّ الحاجة إلى الإسهام التطوعي. فالعمل من أجل مصلحة المجتمع، بدءًا من العائلة الكبرى ووصولًا إلى المجتمع العام، يُعد فضيلةً تساهم في سعادة الفرد وسلام المجتمع، وتشكل علاجًا للعديد من مشكلات المجتمع الحديث.
يحظى العمل التطوعي بمكانة راسخة في التقاليد الإسلامية، ويكتسب معنى أسمى عندما يُؤدى ابتغاءً لرضا الله تعالى.
ففي الحديث الشريف الذي رواه الطبراني: «أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ»، وأحاديث كثيرة غيره، نجد تشجيعًا واضحًا للمؤمنين على القيام بالأعمال الخيرية غير المفروضة، أي الأعمال التطوعية. وقد نشأ عن هذا الفهم للبر عبر التاريخ الإسلامي إرثٌ وقفي قويّ، حيث كان المسلمون يتسابقون في تلبية حاجات الآخرين. واليوم، نحن بحاجة إلى إحياء هذا الإرث ونقله إلى الأجيال الجديدة.
إن العمل التطوعي الذي يتم تحت تأثير الإرادة الحرة، يُسهم في تنمية الفرد على المستوى الشخصي، من خلال إكسابه مهارات التواصل والعمل الجماعي.
كما يساعده على الشعور بالقيمة والمعنى، بل ويجعله أكثر امتنانًا عند رؤيته لحاجات الآخرين، مما يؤدي إلى تقليل مستويات التوتر والاكتئاب. وتشير الدراسات إلى أن المتطوعين يتمتعون بمعدلات أعلى من السعادة ومستويات أقل من الاكتئاب. علاوة على ذلك، لا يقتصر التطوع على الأثرياء أو أصحاب العلم، بل يمكن لأي شخص يمتلك وقتًا أو مهارات أن يشارك في الأعمال الخيرية.
يكتسب الشباب من خلال مشاركتهم في العمل التطوعي، مهارات حياتية قيّمة تلازمهم طيلة حياتهم.
كما تتيح لهم هذه التجارب فرصة التعرف على أشخاص جدد ووجهات نظر مختلفة، مما يوسّع مداركهم ويطوّر طريقة تفكيرهم تجاه العالم. ويُسهم العمل التطوعي كذلك في تنمية صفات القيادة لدى كثير من الشباب. ومن جهة أخرى، فإن العديد من الشركات والمؤسسات تُولي أهمية خاصة للتجارب التطوعية عند تقييم المتقدمين للوظائف، مما يعزّز فرصهم في الحصول على وظائف أفضل أو الترقية المهنية. والأهم من ذلك، أن الشخص الذي يقدم نفعًا للمجتمع يشعر بقيمة أكبر لذاته ويزداد احترامه لنفسه، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على صحته النفسية والعقلية.
للتطوع فوائد اجتماعية كثيرة، من أبرزها إتاحة الفرصة للتواصل مع الآخرين وتكوين صداقات جديدة.
ونظرًا لازدياد إدمان الهواتف والأجهزة اللوحية، يُعد العمل التطوعي فرصة ذهبية لربط الشباب ببعضهم البعض وتعزيز التفاعل الإنساني بينهم. كما أن فعل الخير يخلق علاقة قوية بين من يُقدّم المساعدة ومن يتلقاها، وبين من ينظمون الجهود لتقديم العون للآخرين. ومن خلال ذلك، يتعزز شعور الانتماء إلى المجموعة أو المجتمع، وتنمو روح التضامن. إن رعاية الناس لبعضهم البعض تُعد ضرورة دائمة في منطقتنا التي لا تخلو من الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، وهي في الوقت ذاته من أبرز نقاط قوة المجتمعات الإسلامية مقارنة بالمجتمعات الغربية.
يُعد نقل الخبرات من أبرز أشكال العمل التطوعي، حيث يُساهم المهنيون الناجحون في دعم الشباب الفقراء من خلال تعليمهم وتأهيلهم لسوق العمل.
كما أن تطوع المعلمين خارج أوقات الدوام للاهتمام بتعليم الشباب، أو سفر الأطباء إلى مناطق الحروب والمآسي لتقديم العلاج المجاني، يمثل دعمًا كبيرًا للصحة العامة. ومن الأمثلة الملهمة، الجهود التي تبذلها العديد من المؤسسات التطوعية التركية والقطرية لتأمين وصول المياه والأغذية لإخوانهم في أفريقيا. إضافة إلى ذلك، فإن العمل التطوعي بما يتطلبه من نشاط بدني وذهني يسهم في تحسين الصحة العامة للمواطنين، ويعزز من شعورهم بالمسؤولية والانتماء.
بكل أسف، في الدول المسلمة سواء كانت غنية أو فقيرة، انتشرت عادة الاعتماد الكامل على الدولة لتلبية كافة الاحتياجات.
هذا الأمر يؤدي إلى استسلام المواطنين للكسل وقلة المبادرة. رغم جودة خدمات الدولة، يبقى هناك دائمًا أشخاص داخل البلاد وخارجها يعانون من نقص في احتياجاتهم. لذلك، يلعب المتطوعون دورًا مهمًا كمكملين لهذه الخدمات، ويساهمون في التخفيف من مشكلات مثل التعليم، وحماية البيئة، ومكافحة الفقر. لذا، من الضروري نشر ثقافة التطوع التي تُعد من القيم الأساسية في تراثنا الإسلامي، لأنها لا تقتصر فقط على مساعدة الآخرين، بل تغني حياتنا الشخصية أيضًا.