
أي توثيق دقيق لما جرى للفلسطينيين خلال فترة 1941-1945 سوف يثبت بالدليل القاطع أنه لا يقل بشاعة عما جرى لليهود تحت الحكم النازي، وكلاهما يجب أن يكون محلاً للإدانة بأقوى وأوضح العبارات.
العالم تابع على الهواء كيف كانت آلة الحرب الإسرائيلية تطارد آلاف المدنيين الفلسطينيين.
حتى وقت قريب، ساد الاعتقاد بأن النظام الذي قاده هتلر في ألمانيا كان أكثر النظم السياسية وحشية في التاريخ، وأن نجاح العالم في إلحاق هزيمة ساحقة به قضى نهائياً على كل احتمال لإعادة إنتاج هذا النوع من النظم، التي شكل وجودها وصمة عار في جبين الإنسانية.
غير أن هذا الاعتقاد بدأ يهتز عند وصول حكومة نتنياهو الحالية إلى مواقع السلطة، ثم انهار تماماً عقب قيام هذه الحكومة بشن حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، لإجباره على الرحيل عن وطنه. فقد ذكرنا هذا السلوك الإجرامي بأن البشرية لم تبرأ بعد من نزعاتها العدوانية ولم تتطهر من آثامها البنيوية. وتكمن المفارقة الكبرى في “الهولوكوكست الفلسطيني” الذي يجري حالياً في قطاع غزة، أمام سمع العالم وبصره، أن الجهة المسؤولة عن ارتكابه هي نفسها التي تدّعي أنها المتحدث الرسمي باسم ضحايا “هولوكوست” آخر، ارتكبه النظام النازي في حق اليهود منذ ما يقرب من ثمانية عقود، ما يعني انتقال الفاعل طواعية من موقع الضحية الذي كان يشغله بالأمس ليحتل اليوم موقع الجلاد، في مشهد يمكن القول إنه يجسد ذروة المأساة في التراجيديا الإنسانية!!.
لم تقتصر جرائم النظام النازي على دوره في إشعال حرب عالمية ثانية راح ضحيتها ملايين البشر من مختلف أنحاء العالم، فقد شاركه في إشعال هذه الحرب المدمرة نظامان آخران، أحدهما فاشٍ في إيطاليا والآخر عسكري في اليابان، لكن النظام النازي تميز عن شريكيه بعنصرية مقيتة، ولدت من رحم إيمانه المطلق بأسطورة تدّعي “تفوّق الجنس الآري”، والتي لا تختلف في جوهرها كثيراً عن أسطورة أخرى، تؤمن بها الحركة الصهيونية، تدّعي أن اليهود هم “شعب الله المختار” وأن فلسطين “أرضه الموعودة”.
ولأن تبني أسطورة “الأرض الموعودة” يمهد الطريق نحو الاعتقاد بأن الحدود النهائية للدولة اليهودية المطلوبة يجب أن تتطابق مع “الحدود التوراتية”، وهو ما حدث بالفعل. فالجناح الأكثر تطرفاً في حكومة نتنياهو الحالية يؤمن بهذه الأسطورة، ويستخدمها غطاء لتبرير مطالبه الداعية إلى طرد الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً خارج وطنهم الذي عاشوا فيه على مدى آلاف السنين، محاولاً بذلك إضفاء نوع من الشرعية الدينية على حرب الإبادة والتجويع التي تشن على الشعب الفلسطيني منذ ما يقرب من 21 شهراً.
ربما يكون من المفيد إعادة التذكير هنا بحقيقة مفادها أن النظام النازي لم يكن معادياً لليهود وحدهم، وأن الجرائم التي ارتكبها لم تكن موجهة ضد دين أو قومية أو طائفة بعينها، وإنما شملت شرائح اجتماعية عديدة، كالغجر والمعوقين والمتحوّلين جنسياً، وكل التيارات السياسية والفكرية المعارضة له، خصوصاً الاشتراكيين والشيوعيين (حتى لو كانوا ألماناً ينتسبون إلى الجنس الآري نفسه)، بل وامتدت لتطال الشعوب التي احتل أراضيها، خصوصاً البولنديين والسلاف.
ربما كان اليهود أكثر الفئات التي عانت من هذا النظام العنصري البغيض، إذ بلغ عدد ضحاياه ما يقرب من 6 ملايين يهودي (حسب الإحصاءات الرسمية)، وتعرضوا لأسوأ وأبشع أنواع المعاملة (المحرقة). غير أن الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية لتوثيق الجرائم التي ارتكبها النظام النظام النازي، والتي ركزت في المقام الأول على الجرائم التي ارتكبت في حق اليهود بالذات، جعلت وحشية النظام النازي تبدو وكأنها موجهة ضد اليهود وحدهم، وهو ادعاء غير صحيح.
ومع ذلك، يمكن القول إن تلك الجهود أسهمت بشكل أساسي في إلقاء الضوء على بشاعة النظام النازي، كما تعد تعد ملهمة لكل القوى والتيارات التي ستسعى في المستقبل لتوثيق جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني، خصوصاً الجرائم التي ارتكبت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تجدر الإشارة هنا إلى أن عمليات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ليست وليدة اليوم ولم تبدأ مع “طوفان الأقصى”، وإنما هي عمليات مستمرة وممنهجة وكامنة في صلب المشروع الصهيوني نفسه وفي بنيته السياسية والفكرية.