شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : في ذكرى محمد نوح… حين يصبح الجلباب وطنًا

بعض الأرواح لا تودّعنا، حتى حين تغيب، بل تُقيم فينا، تسكن زوايا القلب، وتتمدد في الذاكرة كعطرٍ قديم لا يبهت ولا ينطفئ.
تمرّ السنون، وتتعاقب المواسم، لكن ثمة وجوهًا تظل مشرقة على جدار الروح، لا تفصلنا عنها المسافات، ولا تطمرها طبقات الغياب. وكنت كلما ذُكِر اسم محمد نوح، شعرت أنه لم يغب يومًا، ولم يسكن في الماضي كما يسكن الآخرون، بل ظلّ حيًّا في وجداني، يهمس لي بين حينٍ وآخر بلحنٍ، أو حكمة، أو ضحكة، أو جُلبابٍ لا يزال معلقًا في بيتي، وفي قلبي، منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا.

كان أستاذي… وصديقي… وأبي الروحي.


لم يكن مجرد فنانٍ يشدو، أو مفكّرٍ يحلّل، أو سياسيٍّ يُنظّر. كان حالةً إنسانية تمشي على الأرض، تفيض دفئًا وصدقًا ودهشة. لم يتعامل مع الفن كترفٍ، ولا مع النضال كمهنة، بل كان كائنًا يحمل رسالته على كتفه، وضميره في جيبه، وابتسامته في قلبه، لا يُراوغ، ولا يُساوم، ولا يُخاتل. كان أحد أركان حزب الغد، ثم غد الثورة، لا بصفته فحسب، بل بروحه التي منحت الحزب نكهةً ثقافيةً ووطنيةً وفنيةً نادرة.

ما زلت أذكر تلك المؤتمرات التي كنا نمضي فيها معًا، ونتجوّل بين الناس في الأزهر، أو الأزبكية، أو الموسكي، فيتدافع علينا المحبّون بهتافٍ واحدٍ: “عاش أيمن نوح!”.


كنت أبتسم، لا لأجل الخطأ، بل لأجل الحقيقة الخفية خلفه: كنا نُشبه بعضنا أكثر من الأب وابنه، أكثر من الرفيق ورفيقه. كنت أراه جزءًا مني، وكان يراني امتدادًا له. هو الذي منحني من فكره، من عاطفته، ومن حنانه الهادئ الذي يشبه لحنًا ناعمًا يفيض من عودٍ قديم في ليلة صيفية هادئة.

ترك لي جُلبابه في منزلي ذات يوم، ولم يسترده.


وكأنه كان يعلم أنني سأحتاجه في ليالٍ لا تُحتمل، وأيامٍ يتراكم فيها الصمت والبرد والغربة. حملت هذا الجلباب معي من بلدٍ إلى بلد، كأنني أحمل جزءًا من روحه، من مصره، من ثورته، من حنانه. كنت ألمسه، فأسمعه. كنت أضمه، فأشعر وكأنني أعود طفلًا بين يديه.

لم يكن محمد نوح صوتًا فنيًا فقط، بل كان صرخةً في وجه الظلم، ولحنًا للحرية، وأناشيد حبٍ لا تموت.


كان صادقًا مع وطنه كما لم يكن غيره، غاضبًا على الجوع والفساد والانكسار، لكنه حنونٌ على الناس، يرى في الفقراء نبلًا، وفي البسطاء بطولة، وفي الأغاني رسالة لا تعرف المساومة.

لقد علّمني أن النضال ليس خطابات، بل وجدان.


أن الفن ليس استعراضًا، بل صدقٌ. أن السياسة ليست دهاءً، بل ضمير. وفي كل مرة كنت أضعف فيها، كنت أستدعيه — بصوته، بجُلبابه، بضحكته، بكلماته — فأتماسك، وأتذكّر أن هناك رجالًا لا يرحلون، لأنهم لم يأتوا إلى الحياة ليموتوا، بل جاؤوا ليبقوا فينا، وحولنا، وبيننا.

في الذكرى السنوية لرحيله، لا أملك إلا أن أهمس لنفسي، ولمن أحبّه:


رحل نوح… لكنه لم يمت.
لا يموت من عزف لقلوبنا معنى الحياة.
لا يغيب من وضع على وجوهنا ضوءًا، وعلى أكتافنا جُلبابًا، وعلى قلوبنا وطنًا صغيرًا يؤوينا من وحشة هذا الزمن.

رحمك الله يا محمد نوح…
ويا ليتك كنت هنا، نضحك كما كنا،
ونسير معًا… ليهتف الناس مرة أخرى:
“عاش أيمن نوح!”
ولعلهم كانوا على صواب…
فما زلتُ أنا… أيمن نوح.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى