مقالات وآراء

مى عزام تكتب : الدولة كمسرح: حين تتحول السلطة إلى مخرج للوهم العام

(1) التضليل: فن قديم متجدد

منذ عرفت الإنسانية مفهوم الدولة والحاكم الذي يدين له الناس بالطاعة والولاء، رافق ذلك عمليات تضليل ممنهجة من الحاكم وأعوانه تجاه شعوبهم. تعددت دوافع هذا التضليل بين تضخيم إنجازات الحاكم وعظمته، وإخفاء عيوبه وهزائمه، وكسب رضا الرعية حتى لو كان الحاكم ظالما أو مدلّسا.

في مصر القديمة، لم يُسمح للفرعون بتسجيل هزائمه، فانتـصاراته وإنجازاته وحدها كانت تُنقش على الحجر. أدرك العالم القديم أهمية الدعاية قبل ظهور جوزيف جوبلز بقرون، وتفنن خُدّام السلطة في ابتكار سبل التضليل.

من أبرز الأمثلة على ذلك ما فعله جريجوري بوتيمكين، المقرّب من الإمبراطورة الروسية كاثرين العظيمة (ويقال إنه كان عشيقها). بنى بوتيمكين قرى مزيّفة على جانبي الطريق الذي سلكته الإمبراطورة وضيوفها أثناء زيارتهم لشبه جزيرة القرم بعد ضمّها للإمبراطورية الروسية عام 1787، كانت هذه “القرى” مجرد واجهات مرسومة على حوائط، أشبه بديكورات الأفلام السينمائية، لخلق صورة زائفة عن الازدهار في عهدها.

لا نعلم يقينا إن كانت كاثرين قد اطّلعت على حقيقة هذه الخدعة المبتكرة غير المسبوقة أم لا؟ لكن بقاء بوتيمكين في حظوتها حتى وفاته دليل على رضاها عن أفعاله التي خدمت صورتها، وما فعله بوتيمكين يُمارس حتى اليوم في دول العالم الثالث عند زيارة المسؤولين، حيث تُزال العشوائيات، وتُدهن الواجهات، ويتم رصف الطرق ونثر أحواض الزهور هنا وهناك، لتُختزل “التنمية” في شريط زائف على جانبي الطريق.

وما زال مصطلح “قرى بوتيمكين” يُطلق على أي إنجازات وهمية تُخفي واقعا متدهورا.

(2) التلاعب بالعقول: عندما تُصبح الدعاية سلاحا

ارتقى فن التضليل إلى مستوى غير مسبوق مع صعود الأنظمة الشمولية في القرن العشرين. يُعد جوزيف جوبلز، وزير دعاية هتلر، نموذجا صارخا لإتقان استخدام الدعاية لتضليل الشعوب وتجييشها. وظّف جوبلز ذكاءه ومواهبه لترويج صورة النظام النازي كنظام لا يُقهر، والتباهي بزيف ازدهار الاقتصاد، وإخفاء جرائمه الوحشية تحت شعارات “الوطنية” و”حماية ألمانيا”.

وسار الاتحاد السوفيتي على الدرب نفسه، فروّج صورة مزيفة عن الازدهار الاقتصادي والتفوق التكنولوجي الشامل، بينما كان الاقتصاد يعاني من التخلف وفشل التخطيط المركزي. تم توظيف النجاح في إطلاق أول قمر صناعي “سبوتنيك” عام 1957، لتضخيم وهم التفوق على الغرب، رغم أن التقدم كان حبيس القطاع العسكري والفضائي، بينما عانت الصناعات المدنية من التقادم. كان الهدف الأساس: كسب دعم الشعب للنظام الشيوعي أثناء الحرب الباردة.

وفي العصر الحديث، لم تكن الديمقراطيات بمنأى عن هذه الممارسة، فقبل غزو العراق عام 2003، روّجت إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ادعاءات كاذبة عن امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، لتبرير الغزو تحت شعار “تحرير العراق”، بينما كانت الأهداف الحقيقية تتعلق بالنفط، وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بالفوضى الخلّاقة،

لخّصت مجلة “الإيكونوميست” الأمر في عبارة قصيرة: “تحوّل الطغاة المعاصرين من بثّ الرعب (مثل ستالين) إلى بث الأكاذيب (مثل بوتين)”.
لكن التضليل لا يقتصر على بوتين وأكاذيبه عن “النازيين الجدد في أوكرانيا”، بل يمتد ليشمل قادة الغرب وغيرهم ممن يلصقون بأعدائهم (دولا أو أحزابا أو جماعات) أبشع الصفات وكأنهم “المسخ فرانكنشتاين”، بينما يمارسون هم جرائم لا تقل فظاعة.

(3) أرقام على المقاس: اقتصاد الوهم

مع ارتفاع وعي الشعوب وتعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي، اتجه الحكام وأعوانهم لاستخدام المؤشرات الاقتصادية كأدوات تضليل أكثر “علمية” وتعقيدا، مستغلين غموض المصطلحات الاقتصادية وقابلية الأرقام للتلاعب.

وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، ما يحدث في عدد من الدول:

في الصين، حيث تُعلن الحكومة عن معدلات نمو اقتصادي مرتفعة كدليل على الازدهار، متجاهلة التفاوت الاجتماعي المهول، والتلوث البيئي المدمر، وعبء الديون المحلية الضخم الذي يهدد أساسات الاقتصاد.

وفي فنزويلا، تروّج الحكومة لتحسن مؤشرات الفقر عبر برامج اجتماعية، بينما تتجاهل التضخم الجامح (الذي جعل العملة بلا قيمة) وأزمات الكهرباء والغذاء والهجرة الجماعية، بل وتمتنع الحكومة عن نشر بيانات التضخم الرسمية أحيانا.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمثل نموذجا صارخا لاستخدام الأرقام بشكل مضلل، خلال ولايته الأولى ادّعى نموًّا اقتصاديا “غير مسبوق” وصفه بـ”الأفضل في التاريخ”، بينما كان النمو (2.5-3% قبل جائحة كورونا)، وهي نسب طبيعية مقارنة بعهود سابقة (كلينتون، أوباما).

يركز ترامب على قدرته “العظيمة” في خلق “ملايين الوظائف” للأمريكيين (6.7 ملايين بين 2017-2019)، وهو رقم جيد لكن ليس استثنائيا، وفي الوقت نفسه يتجاهل تماما خسارة أكثر من 20 مليون وظيفة خلال جائحة كورونا، ويكتفي بالاحتفاء بالتعافي الجزئي لاحقا وكأنه انتصار عظيم.

كما وصف ترامب رفع الرسوم الجمركية على الواردات بأنها “عبقرية اقتصادية” ستجلب التريليونات وتخلق الملايين من الوظائف، بينما كانت نتائجها رفع التكاليف على المستهلك الأمريكي، وإلحاق الضرر بقطاعات كالزراعة والصناعة.

يكرر الحكام في كل مكان روايتهم المضللة لتثبيتها في الأذهان، وقد وثقت “واشنطن بوست” ما يقرب من 31 ألف ادعاء كاذب أو مضلل لترامب خلال ولايته الأولى، أسهمت في تشكيل صورة “المخلّص وصاحب رسالة: عودة أمريكا عظيمة مرة أخرى”، وهي الصورة المُزيفة والمضللة التي ضمنت له ولاية ثانية.

لا تيأس عزيزي القارئ، فما نعيشه فصل من فصول تاريخ السلطة مع الشعوب: مسرحية كبيرة من التضليل، بدأت مع نقوش الفراعنة، وستستمر ما دامت السلطة متشبثة ببقائها وهيمنتها، والعامة منهمكة في سعيها وراء لقمة العيش، ولن يتغير الأمر إلا إذا ارتفع وعي الناس واستطاعوا التمييز بين الغث والسمين بالمعرفة الصحيحة، وتقبّل الحقيقة مهما كانت مؤلمة.

المصدر: الجزيرة مباشر

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى