
بالقلب لا بالقلم، وبالحنين لا بالحبر، اكتب
عن فارسٍ من فرسان القيم، لا مجرد فنان… عن الفارس محمد صبحي، شهادةً إنسانية لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُولد من صُلب التجربة وصدق المعاشره
… حين يتعرّض الفنان الإنسان محمد صبحي لوعكة صحية، لا تخفق دقّات قلبي فقط، بل يرتجف شيء في داخلي، كأن القيم نفسها أصابها عارضٌ مفاجئ.
أشعر بخوفٍ حقيقي، لا على جسدٍ أنهكه الزمن، بل على روحٍ غرسَت فينا بذورًا من الوعي، والكرامة، والالتزام، نحن اليوم أحوج ما نكون إليها.
محمد صبحي ليس مجرد ممثل، بل ضمير حيّ زرع الأمل في حقول الفن، وسقى بمواقفه الصلبة جذور الحقيقة.
واليوم، حين تضعفه العافية، لا أملك إلا الدعاء… دعاءً يُشبه محبتي، ويليق برجلٍ يستحق أكثر من كلمات، ويستحق أن أكون إلى جواره، إنسانيًا، كما كان دومًا إلى جوار قضايا الإنسان.
لم تبدأ علاقتي به من خشبة المسرح، بل من مساحة مشتركة أوسع اسمها “الصدق”.
عرفته أول مرة عام 1997، في جلسات حوارية جمعَتني بالفنانة الصديقة سيمون، فأحببت فيه الصدق قبل الموهبة، والنُبل قبل الموقف، والحنوّ في صوته قبل ملامح دوره.
حين باع سيارته القديمة – فولفو – كي يبدأ مشروعه الحالم “مدينة سنبل للفنون”، لم أكن بحاجة إلى السيارة، بل كنت بحاجة أن أسانده، أن أقول له بطريقتي: “لست وحدك”… واشتريتها.
عشت معه تفاصيل مشروعه كما يُعاش الحُلم. من الفكرة إلى الطوب، من المعمار إلى المعنى، من التعثُّر إلى الإصرار.
وعندما دخل في شراكة انتهت سريعًا، كنت أحاول أن أكون جسراً بين الطرفين، محاميًا للصيغة العادلة، لا لطرفٍ دون آخر.
لم تنكسر علاقتي به يومًا، بل ازدادت متانةً بعد خروجي من محبسي عام 2009. وعندما أطلقت حملة “طرق الأبواب”، التي قادتني إلى أكثر من ٣٠٠ قرية ومدينة، جاءني صوته من بيروت إلى القاهرة: “تعال فورًا… هنروح وزارة الدفاع”.
وهناك، كنت شاهدًا على ما لا يُنسى. سأل صبحي المشير طنطاوي عن سبب إسقاط العقوبة عن خيرت الشاطر، والإبقاء على العقوبة الظالمة بحقي.
وفي صباح اليوم التالي، كنت في وزارة الدفاع إلى جانب الفريق سامي عنان الذي طلب مني أن أكتب قرار إسقاط العقوبة التبعية، وكتبناه.
القرار نُشر في الوقائع المصرية، وأعدت تقديم أوراق ترشحي للرئاسة، قبل أن يفاجئني قرار الإقصاء مجددًا.
وعندما سألت المستشار حاتم بجاتو: “كيف يُلغى أثر قرار أُصدر رسميًا؟”، كانت الإجابة صادمة: “من أصدر القرار… هو من طلب استبعادك!”
لم أذهب وحدي، بل ذهب معي محمد صبحي، غاضبًا أكثر مني، حزينًا على العبث الذي يُدار باسم الدولة.
سأل عنان: “لمن ستذهب أصواتك؟”، فأجبت بصدق: الليبراليون سيذهبون إلى عمرو موسى، الثوريون إلى حمدين صباحي، والإسلاميون إلى أبو الفتوح.
في الحزب، كانت العاصفة أقوى من القدرة على احتوائها. استقال أحمد ميلاد، وبلال حبيب، والتيتي، وغيرهم ممن تركوا في داخلي فراغًا لا يُملأ.
وفي المقابل، انضم آخرون إلى حملات مختلفة، في مشهدٍ يعكس ألم التمزُّق بعد حلم كبير.
ظل محمد صبحي كما كان دائمًا: صديقًا وفيًا، حتى بعد اختلافات السياسة، وبعد ٢٠١٣.
حين عرضت عليه عضوية مجلس الشورى ضمن تعيينات الرئيس محمد مرسي، وافق مبدئيًا، لكنه اعتذر لاحقًا، لأسباب احترمتها كثيرًا، كما احترمت دائمًا وفاءه لقناعاته.
أحببت هذا الرجل، وسأظل أحبه. ليس فقط لأنه ممثل استثنائي، بل لأنه إنسان نادر في زمنٍ ندر فيه الصدق.
وإنْ قال عنه البعض إنه صاحب شخصية طاغية، بل وربما مستبد في رأيه، فأنا لا أعرف منه إلا ما عشته: رجلٌ كريم، حساس، ملتزم، واضح، وفيّ.
كثيرًا ما كنت أختلف مع عادل إمام فنيًا، وأجد فيه تمثالًا جميلًا، لكنه مفرغ من الداخل.
أما محمد صبحي، فكان دومًا حجر الأساس، لا الواجهة.
وكان قلبًا من لحمٍ ودمٍ وكرامة، لا مجرد اسم على جدران الخشبة.
اليوم، ونحن نحتاج من يُعيد سُقيا القيم التي زرعها فينا هذا الفنان العظيم، لا أملك له إلا أن أرفع يديّ بالدعاء: اللهم أطل عمره، وبارك في صحته، واجعل بقاءه امتدادًا لرسالةٍ بدأها… ولم تكتمل بعد.
محمد صبحي لا يجب أن يغيب، لأن ما زرعه فينا يحتاجه الزمن القادم، ويحتاجه هذا الوطن الضائع بين الضجيج والانحدار.
نحن نحتاجه كما نحتاج الماء، كما نحتاج شجرةً وارفة في صحراء فقدت ظلها.
وإن كان لا يسمع دعائي الآن، فليقينٍ في قلبي أن الله يسمعه… ويراه.
اللهم احفظ محمد صبحي… الإنسان و الفنان.