شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : العدالة في زمن الخلاف… حين ترتعش معايير القاهرة والرياض

العدالة ليست شعارًا يُرفع حين نحتاجه، ولا عصًا غليظة نهوّش بها على الخصوم ونطويها أمام الحلفاء.
إنها ميزان واحد، لا يرتجف حين تميل الخنادق، ولا يبهت لوهج النفط أو ضغط الدولار. وما نراه اليوم من تصاعد الخلافات بين القاهرة والرياض، ليس مجرد خلاف بين عاصمتين، بل اختبار لضمير النخبة في المشرق العربي كله، وامتحانٌ للمعايير التي تتبدّل بتبدّل التموضع والمصلحة.
في كل خلاف سياسي، تطلّ من النوافذ ذاتها أصوات اعتادت أن تسوّغ، وتُدافع، وتُجمّل… فإذا بالمرايا تتكسر، وإذا بمن كان بالأمس حليفًا تُطلق عليه رصاصات “التخادم”، ويُوصم بالتحالف الآثم، لا لأن المعطيات تغيّرت، بل لأن الموقع تبدّل. يتغيّر التمويل، فتتغيّر القناعات. تهتز التحالفات، فتهتز معها “المبادئ”. وهكذا، تتقاطع خطابات القاهرة والرياض، وتتعارك عبر وسائط إعلامها ونُخبها، كأننا في سوق للعدالة، لا في ميدانها

رأيتُ، وسمعتُ، من كانوا بالأمس يُنزِّهون الخليج من كل تهمة، فإذا بهم اليوم يُحمِّلون الرياض مسؤولية فشل القاهرة، ويُشهِرون في وجهها ما كانوا يُنكرونه عن غيرها.
كما سمعت آخرين، كانوا يتهمون القاهرة بالارتهان، فإذا بهم اليوم يطلبون منها أن تُوقّع صك الخضوع. فأين ذهب الإنصاف؟ وأين اختفى ميزان المبادئ؟ وهل يظلُّ صوت العدالة محجوبًا كلما دار المال في وجهة جديدة؟

عدتُ إلى مرافعات النخبة، تلك التي خِلتُها يومًا فكرًا، فإذا بها دعاية.
خِلتها حوارات، فإذا بها مناوشات لغوية تُنصب فيها مشانق المعايير لمن خالفهم الموقع لا الفكرة. وكلما تأمّلت هذا التراشق المتبادل بين ضفّتي البحر الأحمر، تيقنت أن الصراع اليوم لا يدور فقط حول غاز أو جزر أو قروض، بل حول حقيقةٍ أكبر: هل لا تزال هناك نُخبة تُحسن أن تُفرّق بين المبدأ والمصلحة، بين الخندق والقضية؟

ما يجري اليوم بين مصر والسعودية ليس مجرّد توتر دبلوماسي أو خصام مصلحي، بل لحظة كشف.
كشفٌ للوجوه، وخدشٌ للزيف، وفضحٌ للمعايير المزدوجة التي تُصاغ باسم “الدولة” حينًا، وباسم “الدين” حينًا، وباسم “المصلحة الوطنية” في كل حين.

وإن كنا حقًا نؤمن بدور العقل في السياسة، وبأن النخبة هي البوصلة لا البوق، فإن واجبنا اليوم ألّا نُعيد إنتاج الانحياز ذاته الذي كنا نُدينه في خطاب الغرب.
فالازدواجية لا جنسية لها، والخيانة لا تقتصر على من يُخالفك، بل على من يُخالف مبادئه وهو يظن أنه منتصر.

إن لم نستطع في هذا الزمن العصيب أن نُحاكم الجميع بمعيار واحد، ونُدين التجاوز سواء صدر من الرياض أو القاهرة أو غيرهما، فقد آن أن نُعلن الحداد على ما تبقى من دور النخبة، وعلى ما تبقى من هيبة العقل في مشهدٍ تُديره الغرائز، لا الضمائر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى