مقالات وآراء

حسن نافعة يكتب : اليهودية والصهيونية ومستقبل القضية الفلسطينية

استئصال الصهيونية من جذورها، الذي ينبغي أن يكون هدفاً تسعى البشرية بأسرها لتحقيقه، هو السبيل الوحيد لفتح الطريق أمام تسوية عادلة لقضية الشعب الفلسطيني.

تختلف “اليهودية” عن “الصهيونية” اختلافاً جذرياً. فالأولى مصطلح يشير إلى الرسالة السماوية التي كلّف الله بها نبيه موسى عليه السلام وحمّله مسؤولية تبليغها إلى قومه، أما الثانية فمصطلح يشير إلى رؤية فكرية صاغها ثيودور هرتزل لتكون إطاراً مرجعياً لحركة سياسية تستهدف إقامة دولة لليهود في فلسطين. ولا شكّ في أنه ما كان لهذه الحركة أن تتمكّن من ترسيخ أقدامها وأن تنجح في تحقيق أهدافها، لولا الدعم الهائل الذي تلقّته من القوى الاستعمارية صاحبة المصلحة في زرع عضو غريب في جسد منطقة بالغة الحساسية، لا يراد لشعوبها أن تتحد أو تنهض من جديد.

لا علاقة للكيان الذي أعلن بن غوريون عن قيامه عام 1948 تحت مسمّى “دولة إسرائيل”، بقبائل “بني إسرائيل” الوارد ذكرهم في القرآن الكريم. ولأنّ “اليهود” مصطلح ظهر في مرحلة تاريخية لاحقة، للدلالة على أتباع الديانة التي بشّر بها موسي عليه السلام، سواء كانوا من نسل يعقوب أم لا، يستحيل الادّعاء بانتماء اليهود المعاصرين إلى أصل عرقي واحد، شأنهم في ذلك شأن المسلمين والمسيحيين.

فاليهودي قد يكون مواطناً أميركياً أو روسياً أو فرنسياً أو مصرياً، واعتناقه لديانة ما، سواء ورثها عن أجداده أو اختارها بإرادته الحرّة، لا يكفل له حقوقاً سياسية تميّزه عن غيره من معتنقي الديانات الأخرى. 

لذا يمكن القول إنّ الهدف الرئيسي من تأسيس الكيان الصهيوني لم يكن مساعدة جماعة بشرية بعينها على استعادة “حقوق قومية” ضائعة، ولكن أداء دور وظيفي في خدمة المصالح الاستعمارية الغربية، وإنّ الكيان الذي ظهر إلى حيّز الوجود منذ أكثر من 75 عاماً، والذي ولدت وتربّت على أرضه أجيال عديدة من أبناء مهاجرين من مختلف أنحاء العالم، لا يمكنه التحوّل إلى “دولة قومية” إلا عبر عملية اندماج طوعي في نسيج الدول المجاورة، وهو ما لم يتحقّق حتى الآن، لأنه يسعى في الحقيقة للهيمنة على المنطقة وليس للاندماج الطوعي فيها.

ليس كلّ يهودي صهيونياً بالضرورة، بدليل وجود تيارات دينية يهودية لا تؤمن بالصهيونية، بعضها لا يعترف حتى بحقّ “إسرائيل” في الوجود كدولة مستقلة، والعكس صحيح أيضاً، فليس كلّ صهيوني يهودياً بالضرورة، بدليل وجود تيارات مسيحية، خصوصاً في الأوساط البروتستانية الإنجيلية، تتبنّى أفكاراً لاهوتية مفادها أنّ عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” شرط ضروري لعودة المسيح، وهي أفكار تصبّ لصالح أكثر التيارات الصهيونية تشدّداً، ما يبرّر إطلاق صفة “المسيحية الصهيونية” عليها. 

وتشتمل الحركات اليهودية المناهضة للصهيونية على تيارات متنوّعة، منها ما هو ديني محافظ، ومنها ما هو سياسي علماني (اشتراكي أو ليبرالي أو حقوقي التوجّه). وتعدّ حركة “ناطوري كارتا” من أهمّ الحركات الدينية اليهودية المناهضة للصهيونية. فهي ترفض قيام “دولة إسرائيل” من حيث المبدأ، من منطلق أنّ الدين لا يسمح لليهود بالعودة إلى فلسطين وإقامة دولة فيها إلا بعد ظهور “المسيح المنتظر”، ما يفسّر تضامنها مع نضال الشعب الفلسطيني ومشاركتها العلنية في معظم الأنشطة الداعمة للقضية الفلسطينية على الصعيد الدولي. 

وهي ليست الحركة الوحيدة، فهناك تيارات دينية يهودية أخرى “حريدية”، ترفض الاعتراف بشرعية الصهيونية وتعمل من خلال مؤسسات مستقلة عن “دولة إسرائيل”. أما أغلب الحركات اليهودية المناهضة للصهيونية فهي “علمانية”، منها ما هو يساري التوجّه، مثل “الصوت اليهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace (JVP)، وهي حركة مؤيّدة للحقوق الفلسطينية، بما فيها حقّ العودة، وتعارض الاحتلال الإسرائيلي لكلّ من الضفة والقطاع، وترى أنّ السياسات الرسمية تجاه الفلسطينيين تتسم بالعنصرية. 

ومنها ما هو أكثر راديكالية، مثل الشبكة اليهودية الدولية لمناهضة الصهيونية (IJAN)، التي تضمّ يهوداً تقدّميين يطالبون علناً بتفكيك الصهيونية ويرون أنّ “إسرائيل” لا تمثّلهم، ومنها جماعات تهتم بالنشاط الميداني، مثل حركة المقاطعة المعروفة باسم BDS التي تناهض الاحتلال والاستيطان وتدعو إلى وقف الدعم الأميركي لـ “إسرائيل” وإلى فرض مقاطعة شاملة عليها، خاصة في المجالات العلمية والأكاديمية. وهناك أيضاً تجمّعات يهودية من أجيال شابة تسعى إلى تغيير الرواية المنحازة لـ “إسرائيل” داخل المجتمع الأميركي، وإلى التصدّي لأنشطة المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية.

ليس من الإنصاف التقليل من أهمية ما تقوم به الحركات اليهودية من أنشطة متنوّعة، ومع ذلك ينبغي الاعتراف بأنّ تأثيرها ظلّ، حتى وقت قريب، محدوداً للغاية، خصوصاً إذا ما قورن بالتأثير الذي تمارسه الحركات اليهودية الصهيونية.

غير أنّ هذا الوضع بدأ يتغيّر بوضوح مع انكشاف الوجه الحقيقي للصهيونية، الذي تجلّى بوضوح من خلال حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها حكومة نتنياهو على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 21 شهراً. ويعتبر انعقاد مؤتمر فيينا، خلال الفترة من 13-15 حزيران/يونيو 2025، أحد التجلّيات الدالة على هذا التحوّل العميق. فقد شاركت في هذا المؤتمر 500 شخصية يهودية من مختلف أنحاء العالم، من بينهم ناجون من الهولوكوست ومفكّرون كبار وحاخامات مؤثّرون وأكاديميون ذائعو الصيت وكتّاب صحافيون من تيارات متنوّعة، وصدر عنه بيان يؤكّد مواقف تحمل دلالات هامة، من قبيل:

  •  1- أنّ “إسرائيل” لا تمثّل يهود العالم ولا يحقّ لها التحدّث باسمهم.
  • 2-أنّ انتقاد السياسات الإسرائيلية لا يعدّ معاداة للسامية، وإنما أمر مشروع ومطلوب في الوقت نفسه.
  • 3-أنّ الأيديولوجية الصهيونية أرست الأساس الفكري لنظام قومي عنصري استعماري، لا يختلف كثيراً عن الأنظمة العنصرية الواجب تفكيكها وإزالتها.
  • 4-أنّ “إسرائيل” لا تستحقّ أن تحظى بشرف عضوية المنظمات الدولية، ومن ثم ينبغي تجميد عضويتها ومحاكمة قادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، إلى أن تستجيب حكومتها لكلّ الحقوق الفلسطينية المشروعة وعلى رأسها عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

يرى كثيرون أنّ انعقاد هذا المؤتمر في البلد نفسه الذي ولد فيه مؤسس الحركة الصهيونية، يشكّل نقطة تحوّل هامة في مسار الجهود الرامية للتصدّي للأيديولوجية الشريرة لهذه الحركة. فتلك هي المرة الأولى التي تعلن فيها شخصيات يهودية وازنة، كتلك التي شاركت في مؤتمر فيينا، عن رفضها ادعاء “إسرائيل” بأنها الممثّل الشرعي الوحيد ليهود العالم والمتحدّث الرسمي باسمهم، وعن اقتناعها التامّ بالشرعية السياسية والأخلاقية للنضال الفلسطيني، ودعمها للمطالب المتعلّقة بمقاطعة “إسرائيل” وفرض عقوبات دولية عليها. 

وتلك هي أيضاً المرة الأولى التي يعترف فيها ناجون من المحرقة النازية بارتكاب “إسرائيل” جرائم لا تقلّ بشاعة في حقّ الفلسطينيين. بل إنّ حماس أحد المشاركين وصل إلى حدّ القول: هنا ولد هرتزل (مؤسس الحركة الصهيونية)، ويتوقّع أن تموت أفكاره في القاعة المقابلة. ومن دون التقليل من أهمية انعقاد “مؤتمر فيينا”، بكلّ ما دار فيه من مناقشات وما اتخذه من مواقف، إلّا أنّ الطريق ما زال طويلاً أمام تحوّل أفكاره إلى تيار رئيسي داخل “العالم اليهودي”، إن صحّ التعبير.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ النضال ضد الصهيونية يخدم المصالح العليا للإنسانية ككلّ، ومن ثم لا ينبغي النظر إلى هذا النظام على أنه نشاط يهمّ اليهود والفلسطينيين وحدهم، وإنما قضية تهم كلّ البشر، ولا سيما المعنيون بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب. ومع ذلك لا ينبغي التقليل أبداً من أهمية ولوج اليهود بالذات، على اختلاف توجّهاتهم السياسية والفكرية، إلى هذه الساحة النضالية بالذات، أي إلى ساحة النضال ضدّ الصهيونية. فمن شأن هذا الولوج، خصوصاً إذا كان بمستوى الثقل الذي شهده مؤتمر فيينا، أن يشكّل بداية خيط قد يفضي إلى حدوث قطيعة تامّة بين اليهودية والصهيونية، وهو شرط لازم لهزيمة الصهيونية على الصعيدين الفكري والحركي، وبالتالي لانتصار الخير على الشر في نهاية المطاف.

كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، أنّ الحركة الصهيونية تستند إلى فكرة عنصرية في جوهرها، وإرهابية في مسلها، لأنها تستهدف طرد شعب بقوة السلاح، وتسليم أرضه التاريخية إلى جماعات بشرية تمّ دفعها للهجرة من مختلف بلدان العالم لخدمة المصالح الاستعمارية في المنطقة.

ولكي تنجح في تحقيق أهدافها، كان لا بدّ لهذه الحركة من إطلاق مجموعة من الأساطير والأكاذيب، لإضفاء شرعية قانونية وسياسية على هذه الفكرة غير الأخلاقية، كأسطورة “الأرض الموعودة لشعب الله المختار” وأكذوبة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، ومحاولة استغلال أحداث جسام لا ذنب للشعب الفلسطيني فيها، كالمحرقة التي نصبها النظام النازي لليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

الأكاذيب والأساطير تتجلّى اليوم على أوضح ما يكون، والأقنعة تسقط. فمن يتعرّض للإبادة الجماعية اليوم هو شعب أنكرت الحركة الصهيونية وجوده، حين ادّعت أنه “شعب بلا أرض”، ومن ثم تبدّلت المواقع ليصبح ضحية الأمس هو جلّاد اليوم. ومع هذا التجلّي، واستيقاظ الضمير العالمي كلّه على هول ما يحدث للفلسطينيين، كان لا بدّ للضمير اليهودي أن يستيقظ على هول ما ترتكبه الصهيونية باسمه من مذابح. وإذا كان ينبغي على كلّ يهود العالم أن يشعروا بالعار مما يرتكبه كيان يدّعي أنه المتحدّث الشرعي والوحيد باسمهم جميعاً، فينبغي على الإنسانية جمعاء أن تشعر بالعار في الوقت نفسه، بسبب عجزها الفاضح عن وقف هذه المذبحة.

استئصال الصهيونية من جذورها، الذي ينبغي أن يكون هدفاً تسعى البشرية بأسرها لتحقيقه، هو السبيل الوحيد لفتح الطريق أمام تسوية عادلة لقضية الشعب الفلسطيني، يستحيل أن تتحوّل إلى واقع على الأرض إلا من خلال ضمان حقوق متساوية وكاملة لكلّ المقيمين على أرض فلسطين التاريخية، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى