
منذ تولّي أحمد الشرع رئاسة سوريا في ديسمبر 2024، بدأت البلاد تدخل مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، تتسم بالانفتاح التدريجي على العالم العربي والدولي، وسعيٍ واضح نحو الانتقال من واقع الأزمة إلى مشروع دولة حديثة ومستقرة. هذه المرحلة الانتقالية وإن كانت لا تزال في بدايتها، إلا أنها تحمل في طيّاتها مؤشرات واعدة، خاصة في ما يتعلق بالحراك الدبلوماسي والاستثماري الذي شهدته البلاد خلال عام 2025.
في ظل الجهود المبذولة لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، تبرز اليوم فرص استثنائية للمستثمرين، سواء من داخل المنطقة أو من الخارج، للمساهمة في هذه العملية التاريخية. لكن يبقى التحدي الحقيقي ليس فقط في تدفّق رؤوس الأموال، بل في كيفية توظيفها لبناء مستقبل مختلف، يقوم على مؤسسات شفافة، واقتصاد متنوع، وعدالة اجتماعية تُعيد الثقة بين الدولة والمواطن، وفي هذا المقال نسلط الضوء على أبرز جوانب هذا التحول خلال هذه الفترة.
سوق ينهض من تحت الركام: الفرص الاستثمارية الحقيقية
الاستثمار في سوريا لم يعد فكرة مؤجلة أو محفوفة بالمخاطر، كما كان الحال في السنوات السابقة. الواقع الجديد يفرض قراءة مختلفة للمرحلة، خاصة مع تحسن نسبي في الاستقرار الأمني في عدد من المناطق، وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل تدريجياً.
من هنا، بدأ رجال الأعمال يدركون أن الوقت الحالي يشكل لحظة محورية لبدء مشاريع جديدة، تخدم ليس فقط المستثمر بل المجتمع المحلي أيضاً. إذ توجد فجوات كبيرة في قطاعات حيوية مثل الطاقة، الاتصالات، الزراعة، والخدمات اللوجستية، نتيجة سنوات من التدهور والإهمال؛ هذه الفجوات تمثّل أرضاً خصبة للابتكار والنمو وتمنح المستثمرين فرصة للدخول إلى سوق لا يزال في بدايات تعافيه.
شركات إقليمية تدخل المشهد السوري
اللافت أن هذه الحركة الاستثمارية لم تقتصر على مستثمرين أفراد، بل شملت شركات إقليمية بدأت فعلياً التوسّع نحو الداخل السوري، وعامل الجغرافيا يلعب دوراً مهماً هنا فالقرب من دول مثل لبنان، العراق، وتركيا يسهّل حركة البضائع، والعمالة، والخبرات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التكاليف التشغيلية المنخفضة ووفرة اليد العاملة المحلية تشجع هذه الشركات على توسيع أعمالها في ظل توفر حوافز استثمارية بدأت الحكومة والقطاع الخاص بتقديمها بشكل أكثر جدية. لا شك أن هذه الديناميكية الجديدة تُعيد رسم ملامح السوق السوري وتفتح الباب لتكامل اقتصادي بين سوريا وجوارها الإقليمي.
القطاع الخاص: المحرّك الحقيقي لإعادة الإعمار
مع تراجع دور الدولة في بعض القطاعات خلال سنوات الحرب، بات من الواضح أن القطاع الخاص يجب أن يلعب دوراً قيادياً في عملية إعادة الإعمار، فمشاريع الإسكان، البنى التحتية، التعليم، والمرافق الصحية ليست فقط ضرورية لتحسين حياة المواطنين، بل تخلق أيضاً وظائف وتُعيد النشاط إلى الدورة الاقتصادية.
وقد أكدت تقارير صادرة عن كل من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن دخول المستثمرين في عملية إعادة الإعمار هو السبيل الأسرع لتحقيق نمو اقتصادي فعّال ومستدام، كما يُسهم في تقليص الاعتماد على المساعدات الدولية ويدعم التحوّل نحو اقتصاد إنتاجي متوازن.
الاستثمار الأخلاقي: ضرورة لا ترف
وسط هذه الطفرة في الاهتمام بسوريا، تبقى مسألة الاستثمار الأخلاقي من القضايا الجوهرية التي لا يمكن تجاهلها، فالهدف يجب ألا يكون مجرد تحقيق أرباح، بل السعي إلى بناء نموذج يراعي حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتوزيع الفوائد الاقتصادية بشكل عادل.
وهنا تبرز الحاجة إلى التزام واضح من المستثمرين والحكومة معاً، لإرساء قواعد عمل تستند إلى الشفافية، المساءلة، واحترام البيئة والمجتمعات المحلية، فالاستثمار في بلد خرج من حرب ليس كأي مكان آخر بل يتطلب وعياً إنسانياً واقتصادياً في آنٍ واحد.
نحو عقد جديد: سوريا كبيئة استثمارية واعدة
إذا استمر المسار الحالي بهذا التوجه مع تعزيز أطر الحوكمة، وبناء مؤسسات وطنية فعالة، فقد تكون سوريا خلال العقد القادم نقطة جذب حقيقية للاستثمارات الإقليمية والدولية ليس فقط باعتبارها سوقاً جديداً، بل كمنصة لإعادة التفكير في نماذج التنمية في مرحلة ما بعد النزاع، إذ لا يمكن إعادة بناء سوريا كما كانت بل ينبغي التطلع إلى سوريا جديدة، أكثر انفتاحاً، أكثر عدلاً وأكثر تكاملاً مع محيطها.
وهذه مهمة ليست سهلة لكنها أيضاً ليست مستحيلة، إذا ما تكاتفت الجهود وتحمل كل طرف مسؤوليته التاريخية.
إن انتقال المشاريع إلى سوريا ليس فقط دليلاً على استثمار ناجح للفرص، بل هو أيضاً مؤشر على بدء تحوّل اقتصادي طويل الأمد، ومع تكاتف الجهود بين المستثمرين، الحكومات، والمجتمع الدولي، يمكن لسوريا أن تتحول من ساحة تحديات إلى أرض واعدة بالفرص التنموية؛ ويُعد التوقيت الحالي حاسماً لوضع الأسس لمستقبل اقتصادي مستقر ومستدام.