مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقه من مذكراتي … الباشا .. رجلٌ علّمني أن النبل حياةٌ تُعاش قبل أن تُروى


هناك وجوهٌ لا تكتفي أن تمر في حياتك، بل تقيم فيك… تسكب ملامحها في ملامحك، وأفكارها في عقلك، وقيمها في ضميرك، ثم ترحل…

لكنها تترك في روحك جذورًا لا تجفّ، وفي قلبك نارًا لا تنطفئ، وفي ذاكرتك ظلًّا لا يغيب.

اليوم يمر 25 عامًا (ربع قرن) على رحيل الفارس النبيل، أبي الروحي، أستاذي الجليل، فؤاد سراج الدين.

ربما أكون قد تعوّدت بعده الفراق، وبات الوداع شيئًا عاديًا، لكن الفقد لا يصير يومًا عادة.

كل الذين رافقونا، أو رافقناهم، في نقطة ما، تركونا… ارتقوا… وغابوا عن عالمنا.

هكذا الحياة، لا أحد يدوم، ولا شيء يستمر، لكن رحيل الكبار يرحل معه جزءٌ منا، ينطفئ شيءٌ فينا، حتى الكلمات تبدو مكرورة، والمشاعر مستهلكة.

بتّ أخاف مؤخرًا التعلّق بأحد، كي لا يؤلمني رحيله، ولا يتبقى لي منه إلا ذكرى تطلّ عليّ كل عام لتقول:

كان هنا عزيز… رفقًا بنا، فبعضكم بعضٌ منا، ولحظة الفراق لا تعرف تاريخًا، لكن هناك من لا يملك التاريخ أن يهملهم.

  1. تعلمت من فؤاد سراج الدين باشا: أن أفعل ما يمليه ضميري الوطني، دون افتعال أو اقتتال لحصد النتائج ولو نسبها البعض لنفسه.

في ذكرى رحيله الخامسة والعشرين أذكر للتاريخ: أنه كان وزير داخلية مصر الذي صنع معركة الإسماعيلية، التي أصبحت عيد الشرطة، ولم يُكرَّم يومًا بهذه الصفة، ولم يكترث بذلك…

ومن هنا تعلمت ألا أحزن أو أبتئس من محاولات بعض “الصغار” سرقة دوري، أو غش الناس بتقليدي شكليًا، فالأصل يبقى، والصورة تزول.

2. تعلمت من فؤاد سراج الدين: أن كلمة “باشا” ليست مجرد لقب، بل سلوك وقيم وأخلاق.

العسكر الذين ألغوا اللقب، هم من توهّموا لاحقًا عليه.

مثلًا: مبارك كان لقبه الوحيد بين رجاله هو “الباشا”!

أذكر يومًا، كنت خارجًا من قاعة البرلمان على عجل، فسألني الدكتور زكريا عزمي: إلى أين أنت ذاهب؟

قلت: “للباشا”.

فقال بدهشة: “هو في شرم!”، إذ خطر بباله أنني أقصد الرئيس مبارك.

3. تعلمت من فؤاد سراج الدين: الكبرياء في المحن، دون مزايدة أو مكايدة، وبغير ادعاء أو بكاء.

صادروا أمواله وممتلكاته، وأجبروه على العمل في تجارة الانتيكات ليأكل من عرق يده.

شوّهوا سمعته وصورته، وسجنوه مرارًا، ثلاثين عامًا اغتالوه فيها يوميًا، لكنه عاد بشموخ وكبرياء، ليعيد بناء الوفد، ويضيف صفحات في سجله الوطني، متحديًا كل من راهن على موته قبل أن يموت.

4. اذا كان طه حسين هو عميد الأدب العربي فوائد سراج الدين يستحق بجدارة لقب عميد الأدب السياسي.

تعلمت من فؤاد سراج الدين: الأدب في الخلاف قبل الاتفاق.

حين انتُخبت سكرتيرًا عامًا للوفد بالقاهرة، قرأت لأول مرة “الكتاب الأسود” الذي هاجم فيه مكرم عبيد النحاس وسراج الدين.

سألته: لماذا فعل هذا مكرم؟

فقال:

“كان قريبًا من قلوبنا، وأراد أن يختبر صبر وحب النحاس له”.

هكذا كان… رفيقًا حتى في العتاب، مهذبًا حتى مع من طعنوه من الخلف.

5. تعلمت من فؤاد سراج الدين:

التواضع والإنصاف وذكاء الرد.

في ذكرى وفاة مكرم عبيد ،سألته:

لماذا لا يُطلق اسمك على شارع كبير

أسوةً بمكرم باشا؟

فقال:

“اسم مكرم عبيد على شارع يضيف لقيمة الشارع، أما الشارع فلا يضيف شيئًا لقيمة مكرم!”.

6. اهم..درس

({…..للبعض أهدي هذا الدرس الهام لعلهم يفهمون ..ومن غيهم يفيقون})

لم يكن فؤاد باشا يعيش في بحبوحة مالية دائمة، لكنه كان أنيقًا في ملبسه ومظهره وسلوكه.

لا تهديه شيئًا إلا ويصلك فورًا أفخم منه.

كان البعض يراه “حريصًا”، لكنه كان كريمًا في بيته، لا تخلو مائدته من الضيوف، فكل من مرّ بـ جاردن سيتي

ودخل قصره، وجد طعامًا وشرابًا يكفي قبيلة.

كان يحافظ على صورته في عيون الناس، حتى أنه، بعد تأميم ممتلكاته وأمواله، أحرق عودًا من خشب البامبو ليبدو كسيجار مطفأ يحمله بين أصابعه في الأماكن العامة!

أتذكر هذه الواقعة، وأحمد الله كثيرًا كلما سمعت إشاعات عني يطلقها بعض النفوس المريضة، القريبة أو البعيدة، التي ترى في كل لمسة حضارية، أو مسحة جمالية، “سيجارًا كوبيًا” باهظ الثمن!

وهم لا يعرفون أن قيمة خشبة البامبو الحقيقية كانت فقط أنها بين أصابع فؤاد سراج الدين.

رحل فؤاد باشا، لكن دروسه باقية، تتجاوز حدود السياسة، وتسكن ضمير الأجيال.

علّمتني سيرته أن الكبرياء لا يُقاس بالسلطة، ولا القيم تُقاس بالمال، وأن أجمل إرث يتركه الكبار هو أن يجعلوا من حياتهم مرآةً يرى فيها الآخرون ممكنات النبل والوفاء وسط عالم يزداد قسوة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى