مصر

فؤاد باشا سراج الدين.. رجل الدولة والوفد وذاكرة الكفاح الوطني

في التاسع من أغسطس تحل الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل أحد أبرز رموز العمل الوطني والسياسي في مصر، فؤاد باشا سراج الدين، الذي شكلت سيرته نموذجًا نادرًا في الجمع بين الوطنية والمبادئ السياسية الراسخة.

فقد كان أحد آخر رجالات العهد الملكي الذين استمر حضورهم في الحياة السياسية بعد ثورة يوليو، وظل حتى وفاته من أبرز دعاة الديمقراطية والتعددية في مصر.

نشأة أرستقراطية وتكوين وطني مبكر

وُلد فؤاد باشا سراج الدين في 2 نوفمبر عام 1911 لأسرة من أعيان مصر ذات النفوذ، حيث تشبّع منذ طفولته بقيم الوطنية والمسؤولية العامة.

تلقى تعليمه في القانون، وبدأ مسيرته المهنية في النيابة العامة، قبل أن يجذبه العمل السياسي إلى صفوف حزب الوفد، في وقت كانت فيه الحركة الوطنية المصرية تمر بمخاضات كبرى من أجل الاستقلال.

صعود مبكر في حزب الوفد

التحق سراج الدين بحزب الوفد منتصف الثلاثينيات، وتمكن من فرض اسمه بسرعة بفضل حنكته وجرأته. فاز بعضوية البرلمان عام 1936، ثم تولى سلسلة من الوزارات، أبرزها:

وزارة الزراعة (مارس 1942)

وزارة الداخلية (يوليو 1942)

وزارة الشؤون الاجتماعية

وزارة المواصلات (1949)

وزارة المالية (1950)

في كل منصب، كان له بصمة. ففي وزارة المالية فرض ضرائب تصاعدية على كبار ملاك الأراضي، وهو ما اعتُبر قرارًا ثوريًا في حينه.

كما سنّ قوانين لحماية العمال والنقابات، وأسهم في تأسيس منظومة الضمان الاجتماعي.

عيد الشرطة.. لحظة مجد وطنية

أشهر مواقفه الوطنية جاءت في 25 يناير 1952، حين كان وزيرًا للداخلية ورفضت قوات الشرطة المصرية الاستسلام للإنذار البريطاني في الإسماعيلية.

تلك الوقفة البطولية التي أسهم سراج الدين في صياغتها تحولت إلى عيد رسمي للشرطة، وبقيت رمزًا للكرامة الوطنية.

مواجهة ثورة يوليو.. ودوامة الاعتقالات

لم يكن فؤاد باشا جزءًا من ثورة يوليو 1952، لكنه لم يتخذ منها موقفًا عدائيًا في البداية. غير أن حضوره السياسي القوي جعله في مرمى السلطة الجديدة. فتم اعتقاله في مناسبات متعددة:

مارس 1952

سبتمبر 1952

يناير 1953، حيث صدر ضده حكم بالسجن 15 عامًا

أُفرج عنه في 1956، لكنه ظل يتعرض للملاحقة والتضييق في الستينيات، ولم يتخلَ يومًا عن قناعاته بأن الوطنية لا تعني المساومة.

عودة قوية.. وقيادة الوفد الجديد

في عام 1978 عاد سراج الدين إلى صدارة المشهد السياسي، حين تولى رئاسة حزب الوفد بعد إعادة تأسيسه.

قاد الحزب حتى وفاته، وكان صوتًا معارضًا يدعو إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي، دون أن يدخل في صدامات عبثية.

بصمات لا تُنسى في الاقتصاد والاجتماع

من أبرز إنجازاته الاقتصادية تبنّيه لتأميم البنك الأهلي الإنجليزي وتحويله إلى البنك المركزي المصري، ما اعتُبر خطوة في طريق تعزيز السيادة الاقتصادية.

أما في الملفات الاجتماعية، فقد تبنّى مجانية التعليم، ورفع شعار العدالة الاجتماعية كركيزة للدولة الحديثة.

مواقف فكرية وإنسانية

كان فؤاد باشا سراج الدين نصيرًا للحريات، مدافعًا عن حرية الصحافة، وداعمًا لقضايا المرأة، مؤمنًا بأن الديمقراطية لا تعني الفوضى، بل تعني المشاركة والمساءلة.

رفض التبعية للخارج، وكان من أوائل من طالبوا بفصل حقيقي بين السلطات، واستقلال القضاء، وصيانة الدستور.

رحيله وإرثه الخالد

توفي فؤاد باشا سراج الدين في 9 أغسطس عام 2000، عن عمر ناهز 89 عامًا، بعد رحلة طويلة من النضال والكفاح الوطني.

لم يكن مجرد سياسي، بل كان ذاكرة حية لمسيرة وطن، من معارك الاستقلال إلى معارك الديمقراطية، من زمن الاحتلال إلى زمن الانفتاح.

إن إحياء ذكرى فؤاد باشا سراج الدين، ليس فقط تكريمًا لسياسي بارز، بل هو تذكير للأجيال بأن المبادئ لا تموت، وأن السياسة لا ينبغي أن تكون وسيلة للمصالح الضيقة، بل مسؤولية في خدمة الناس.

رحم الله فؤاد باشا سراج الدين.. رجل الدولة الذي لم يتنازل عن الوطن، ورجل الوفد الذي ظل صوته حاضرًا رغم كل المحن.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى