مقالات وآراء

طارق الزمر يكتب: طبيب القلوب والعقول: سيرة عصام العريان بين الدعوة والنضال السياسي

تمرّ الذكرى على رحيل الدكتور عصام العريان في سجون الانقلاب، فتتجدد صور حياته ومواقفه في الذاكرة كأنها مشاهد حيّة، لا تغيب تفاصيلها عن وجدان من عرفوه أو اقتربوا من مدرسته. كان رجلًا يصنع الحدث في صمت، ويزرع الأثر في كل ساحة تطأها قدماه، فلا يترك مكانًا إلا ويترك فيه بصمة فكرية أو دعوية أو وطنية.

عرفته أول مرة أثناء حرب أكتوبر. حين أُغلقت المدارس بسبب ظروف المعارك، لم يقبل عصام أن يترك طلاب قريتنا في فراغ قاتل. بادر بتحويل المساجد إلى فصول تعليمية، وجلب طلاب الجامعة في قريتنا ليقوموا بالتدريس للصغار، في تنظيم يفوق ما عرفته وزارة التربية والتعليم يومها. لكن الأهم، أنه جعل تلك الفصول مدارس للوطنية؛ يعلّم فيها الصغار ما يجب أن يعرفوه عن الاحتلال الصهيوني لسيناء، وعن واجب الجهاد لتحرير الأرض، وكان يحثّهم على التبرع بالدم دعمًا للمقاتلين. كانت تلك المبادرة الأولى التي كشفت أن الشاب عصام ليس مجرد طالب علم، بل قائد بالفطرة، يدرك أن التربية الوطنية تبدأ من وعي الأطفال.

في بدايات دعوته في ناهيا، كنت أراه لا يفارق المصحف، أو لا يفارقه المصحف، حتى وهو في الميكروباص في طريقه من قريته إلى كلية طب القصر العيني. كانت علاقة روحية وعلمية بالقرآن، تُمده بصفاء البصيرة وقوة الحجة، وتنعكس على حضوره في المناظرات والحوارات.

كان شباب القرية يستدعونه في أي وقت للمناظرة مع خصوم الدعوة، فيأتي حاضرًا بعقل مرتب ومنطق قوي. حتى علماء الأزهر كانوا يقفون أمام حجته، ثم يحبونه ويطلبون صحبته، لينظم لهم بعد ذلك دروسًا علمية فتحت أبواب الخير للدعوة وأهلها.

وفي طب القصر العيني، كان صاحب كلمة، يقتحم المدرجات حين يسمع بهجوم على الشريعة أو الفقه، ويطلب المناظرة بلا تردد. وفي إحدى المرات، هرب عميد الكلية آنذاك، من مناظرته بعدما اعتاد التهجم على الشريعة، لتبقى الواقعة شاهدًا على جرأة العريان في الدفاع عن دينه.

لا أنسى عدوان الأمن عليه وهو يحاول اعتلاء السلم الرئيسي بساحة جامعة القاهرة، ليلقي كلمته الرافضة لاستقبال شاه إيران في مصر، بعد أن ذبح شعبه. كان الأمن يضربه ويمنعه، لكنه أصر على إكمال موقفه، مدركًا أن الكلمة أمانة لا تسقط بالتخويف.

كان من أوائل جيل الطلاب الذين رفضوا أن يغادروا الجامعة بعد انتهاء دراستهم. كان يدرك قيمة الجامعة كمدرسة نضالية، فابتكر لقاءات تجمع الخريجين والطلاب الجدد، لينقلوا لهم الخبرة ويواصلوا مسيرة العمل العام. كان يعرف أن الحركة الطلابية هي القلب النابض لأي مشروع تغيير حقيقي.

حين التحق بالخدمة العسكرية بعد الجامعة، لم يتوقف عن الدعوة. حوّل الوحدات التي خدم فيها إلى خلايا نشاط دعوي وتربوي، مع خطب الجمعة التي كانت تحمل رسائل قيم وإيمان وتوعية سياسية. هذا النشاط استدعى إحالة ملفه إلى المخابرات الحربية، في واقعة كانت الأولى من نوعها في تلك المرحلة، بأوامر مباشرة من مكتب حسني مبارك نائب الرئيس لشؤون الأمن وقتها. كان الهدف واضحًا: منع انتشار الدعوة الإسلامية داخل القوات المسلحة.

في يوم التحقيق، طلب من الجندي المكلّف بمرافقته أن يمرّ على صديق له بميدان الجيزة، فإذا بالصديق هو أخي عبود الزمر، الضابط بالمخابرات الحربية آنذاك. ولما علمت زوجته أن عصام مستدعى للمخابرات، أبلغت عبود فورًا. عاد عبود إلى مقر عمله، وطلب حضور التحقيق مع عصام، برغم أن عمله كان يختص بالكيان الصهيوني لا بالأمن الداخلي. وعندما عرف المحقق أن عبود صديقه، رحّب بحضوره. كان لافتًا أن الأسئلة لم تقتصر على نشاطه داخل الجيش، بل تناولت نشاطه العام، في إشارة إلى حضوره الفكري والسياسي الذي لم يكن يحده حدود.

كان المتوقع أن يتم فصله من الخدمة الإلزامية، وهو ما حدث لاحقًا، في واحدة من أولى القرارات التي اتخذت بهذا الشكل لتجنيب الجيش انتشار الدعوة. لكن عصام خرج من التجربة أكثر صلابة، وأكثر يقينًا بأن المواجهة مع الاستبداد لا بد أن تكون شاملة: وعيًا، وتنظيمًا، وصبرًا.

لم يكن نشاطه الإسلامي المتواصل يمرّ مرور الكرام على أجهزة الأمن، بل كان ثمنه اعتقالات متكررة على امتداد سنوات، جعلت اسمه حاضرًا في ملفات القضايا السياسية الكبرى منذ أواخر السبعينيات. تعرّض للسجن في عهد مبارك مرارًا، وكانت تهمته الثابتة هي الانخراط في العمل السياسي والدعوي، والمشاركة في الحراك الطلابي والمهني. ومع كل اعتقال، كان يخرج أكثر تصميمًا على المضي في طريقه، مؤمنًا أن السجن أحد ميادين الجهاد بالكلمة والموقف، وأن الدعوة لا تتوقف عند الجدران ولا خلف الأسلاك.

وبرغم كل هذه المواقف المشرّفة والمآثر العظيمة، فإن الإنصاف يقتضي القول إن أداءه في عامه السياسي الأخير، خلال فترة حكم الرئيس الدكتور محمد مرسي، لم يقترب من عملقة أدائه المعهودة طوال حياته. كان ذلك تراجعًا لافتًا، لم أجد له تفسيرًا حتى اليوم، وما اضطرني لذلك إلا أن العمل العام يوجب على من ينخرط فيه أن يُقيَّم، فهو حق الأمة والمجتمع لا ينبغي التقصير فيه، وألا يتردد المخلصون في تبيين مواطن القصور، وإن كانوا في دار الحق. فالرجال العظام يزدادون رفعة حين تُذكر إنجازاتهم وتُناقش أخطاؤهم بصدق وأمانة.

استشهاد الدكتور عصام العريان في السجن لم يكن نهاية قصته، بل بداية فصل جديد في وعي الأجيال التي تتعلم من حياته أن المبادرة هي جوهر القيادة، وأن الجمع بين الفكر والعمل هو الطريق لصناعة التغيير. كان مدرسة متكاملة: في الوطنية، وفي العلم، وفي الجرأة، وفي ربط الدعوة بقضايا الأمة الكبرى.

رحم الله عصام العريان، فقد عاش كبيرًا، ومات ثابتًا، وترك إرثًا سيظل حيًّا في ذاكرة الأمة ما بقيت تبحث عن رجال يصدعون بالحق في زمن الخوف.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى