مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب: من يالطا إلى ألاسكا: عنب الكبار وحصرم الصغار!

قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، اجتمع زعماء الدول الكبرى الثلاث: جوزيف ستالين عن الاتحاد السوفياتي، وينستون تشرشل عن بريطانيا، وفرانكلين روزفلت عن الولايات المتحدة،

في مدينة يالطا السوفياتية الواقعة على البحر الأسود، بين 4 و11 شباط/ فبراير 1945، ليقرّروا تنظيم حالة السلم بعد الحرب، وتشكيل نظام الأمن الجماعي، وإعطاء الشعوب المحررة من النازية حق تقرير مصيرها.

إلا أنّ مؤتمر يالطا سيكون في ما بعد الدافع الرئيس لحرب باردة بين معسكرين كبيرين: المعسكر الشرقي الشيوعي بقيادة موسكو، والمعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة واشنطن. سبق مؤتمر يالطا، مؤتمر عقد في موسكو في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1944 ضمّ ستالين وتشرشل، وبغياب روزفلت، حيث قسّمت أوروبا من قبلهما، إلى مناطق نفوذ غربية وسوفياتية.

كما سبق مؤتمر موسكو، أول مؤتمرات الحرب العالمية الثانية الذي عُقد في السفارة السوفياتية في طهران من 28 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 1 كانون الأول/ ديسمبر 1943. الذي ضمّ ستالين، وروزفلت وتشرشل، إذ ركز مؤتمر طهران على مواضيع عدة، أبرزها: العمليات العسكرية للحلفاء، وفتح جبهة ثانية ضدّ ألمانيا، والعلاقات مع إيران وتركيا، والعمليات العسكرية الخاصة في يوغوسلافيا واليابان، والتسوية ما بعد الحرب.

بعد استسلام ألمانيا يوم 8 أيار/ مايو 1945، عقد فيها مؤتمر بوتسدام بين 17 تموز/ يونيو و2 آب/ أغسطس 1945 الذي ضم ستالين وتشرشل وهاري ترومان الرئيس الأميركي الذي خلف روزفلت. قرّر المؤتمرون، كيفية إدارة ألمانيا بعد استسلامها غير المشروط، وإنشاء نظام عالمي بعد الحرب، وقضايا معاهدة السلام، واحتواء آثار الحرب.

من اللافت، أنّ فرنسا لم يكن لها وجود في هذه المؤتمرات، وأنّ الجنرال شارل ديغول تمّ إقصاؤه عن مؤتمر طهران، ويالطا، وبالذات عن مؤتمر بوتسدام، لأنّ حضوره كان سيشكل معضلة، لكونه سيُعيد فتح المسائل التي اتُفق عليها بين الثلاثة الكبار في يالطا. هكذا شهد العالم بعد الحرب بروز قطبين كبيرين، وتقسيم النفوذ بينهما في القارة الأوروبية وغيرها من مناطق العالم لعقود طويلة، قبل أن تحدث التغييرات الدراماتيكية، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومته الشيوعية، لا سيما في أوروبا الشرقية، وأفول حلف وارسو.

إذا كانت أوروبا الحجر الأساس في تكوين النظام العالمي بعد الحرب، هل يُعيد التاريخ مجدّداً أوروبا من خلال أوكرانيا لتكون بداية رسم خريطة جديدة لها ولمناطق عديدة في العالم من قبل الرئيسين الأميركي ترامب والروسي بوتين، لا سيما المناطق التي تشهد حروباً، وأزمات، ومواجهات دامية، ومشاكل أمنية، وأزمات اقتصادية كبيرة؟! ما الذي سيحمله اجتماع ألاسكا اليوم 15 آب/ أغسطس الحالي بين الرئيسين الأميركي والروسي، وما في جعبتهما من حلول لأوكرانيا، وما وراء أوكرانيا؟!

ما الذي ينتظره الأوروبيون، وبالذات الأوكرانيون من المؤتمر؟! هل سيأخذ ترامب بالاعتبار ما يريده الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وهو الذي يضعها جانباً، يتصرّف مكانه، ويفاوض ويقرّر بدلاً عنه، بعد أن دفعه إلى الواجهة لسنوات، فكان بمثابة دمية يحرّكها الأميركي من وراء المحيط، متى أراد وكيفما شاء، لتبقى الكلمة الفصل، والقرار الحاسم في يد الرئيس الأميركي ترامب الذي قال، “إنه مستعدّ لإجبار كييف على تقديم تنازلات إقليمية لصالح روسيا؟… وأنه سيتمّ تبادل أراض لصالح الطرفين”، وبذلك سيجد زيلينسكي نفسه مرغماً على تجرّع سمّ الهزيمة. ليت الشعوب الضائعة، والحكام المغفلون بإرادتهم وبغير إرادتهم في هذا العالم، يدركون أنّ من يعوّل على دعم الدول الكبرى، ويرتمي في أحضانها.

ستلفظه عند أول فرصة، ولن يكون له قرار أو أيّ اعتبار. ترامب سيفاوض بوتين بالنيابة عن زيلينسكي الذي كان ومعه أوروبا وقوداً لحرب أشعلتها الولايات المتحدة ضدّ روسيا، ظناً منها أنها ستلوي الذراع الروسية، وتمرّغ أنف موسكو في تراب أوكرانيا، وتلحق بها هزيمة تؤدي إلى تحجيمها وتقزيمها، ومن ثم تطويقها في عقر دارها من قبل الحلف الأطلسيّ، والعمل في ما بعد على تفكيك جمهورياتها، كما فكّكت الجمهوريات السوفياتية عنها في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991.

إنّ اجتماع ألاسكا، لن يقتصر على الحرب في أوكرانيا، إذ أن هناك العديد من المواضيع بالغة الأهميّة والمصالح الاستراتيجيّة التي تهمّ واشنطن وموسكو، في القطب الشمالي، بغية استغلال موارد الطاقة المقدّرة بكميات هائلة، وتوزيع مناطق النفوذ، وما يوفره القطب الشمالي، من طرق جديدة للتجارة البحرية المؤدية إلى الشرق الأقصى، مما يستدعي تفاهمات واتفاقات حولها.

ما مدى فرص نجاح اجتماع ترامب وبوتين في ألاسكا بعد أن استبعد عنه حضور أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، كما استُبعدت فرنسا عن مؤتمرات طهران وموسكو ويالطا وبوتسدام، وإمكان توصلهما إلى حلول عملية تتعلق مباشرة بأوكرانيا، وبقضايا ساخنة لدول، وشعوب، ومناطق في العالم، وتخدم بالدرجة الأولى مصالح بلديهما القومية، والأمنية، والاقتصادية، والتجارية، والاستراتيجية، ويقرران مصيرها، غير عابئين بالأمم المتحدة، وبضوابط القوانين الدولية، ولا بحرية الشعوب وحقوقها المشروعة!

إذا نجح اجتماع ألاسكا، فسيكون مدخلاً لتسويات كثيرة تصبّ في صالحهما، وإنْ كانت على حساب مصالح دول وشعوب! هناك مَن يحذّر في جانب آخر، ويشكك في نوايا الولايات المتحدة والرئيس الأميركي ترامب حول مسألة وقف إطلاق النار في أوكرانيا، الذي يتطلب في ما بعد عدم تزويدها مجدّداً بالأسلحة المتطورة، وعدم وجود قوات أوروبية أو غير أوروبية على أراضيها، حتى لا تستعيد أوكرانيا في ما بعد أنفاسها، وتستأنف الحرب من جديد لإنهاك روسيا عسكرياً، وإدخالها مجدّداً في حرب استنزاف أوسع وأكبر.

إذ ستبقى روسيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مصدر قلق وتحدّ كبير لا يمكن الركون له، وإنْ ظلّلتهما اتفاقيات مؤقتة او دائمة، فالصراع والتنافس بين الكبار أمر حتميّ، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. من ألاسكا الأميركية، التي تبعد كيلومترات قليلة عن الأراضي الروسية الفاصل بينهما مضيق بيرينغ، سيتخذ الرئيسان ترامب وبوتين موقفيهما، اللذين سيحدّدان في المستقبل القريب نهج العلاقات بين القوتين العظميين، ورؤيتيهما في حلّ المشاكل والقضايا الحساسة التي يشهدها العالم.

ما الذي سيغلب على اجتماع ألاسكا 15 آب/ أغسطس 2025، التباين في المواقف والأهداف والمصالح، حيال قضايا جوهرية، يصعب التفاهم حولها والتفريط بها، أم عزيمة ترامب وبوتين على الاتفاق بينهما ليجعلا من مؤتمر ألاسكا مقدمة لـ يالطا جديدة تتبلور أهدافها وأبعادها لاحقاً؟! وهل سيدفئ ترامب وبوتين المؤتمر، أم سيجمّده صقيع ألاسكا؟! ساعات قليلة بالانتظار، ومن القطبين الكبيرين سيُزوَّد العالم بالخبر اليقين!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى