
منذ أيام أطل علينا الشيخ محمد الصغير بفيديو يقول فيه: إن السلاح كان عنصر الحسم في انتصار الثورة السورية بينما الذين رفعوا شعار سلميتنا أقوى من الرصاص انهزمت ثورتهم، يريد أن يثبت بذلك حسب قوله أن الحراك المسلح هو السبيل الوحيد للتغيير وانتصار الثورات الشعبية، وهو بهذا الكلام يُشرعن حمل السلاح بين أبناء الشعب الواحد،
وإن كان فيه هلاك المجتمع وتفسخ أوصاله وتقليب النفوس بعضها على بعض، وإسالة الدماء بين أزقته وحواريه، وتوريث الضغائن والأحقاد بين الأجيال، دون إعطاء أى أهمية لتماسك النسيج الداخلي في المجتمع وإعلاء المصلحة العامة وحفظ النفس التي هى من المقاصد الخمسة للشريعة، ثم يُعمم تجربة لم تُدرَس ملابساتها وكواليسها بشكل كافٍ كقياس للنموذج الناجح والمثالي الذي يجب اتباعه لتحقيق الغاية.
فإذا كان هذا المنطق هو لغة التعامل بين أبناء الشعب الواحد وإن اختلفت أفكارهم ومشاربهم- وهذا حقهم- فبأى منطق يتعامل الناس مع العدو؟ بعد أن بات هو وأبناء الشعب الواحد في منزلة واحدة؟ وهل اتبع النبي الكريم وهو أصدق الناس وأبرهم ورسالته واضحة – كالمرآة الصافية لا تستر أدنى غبار- منهج العنف مع قريش؟ أم دعاهم بالحسنى واللين والحلم؟
كان يتحاشى قتالهم بكل الطرق رغم الطرد والأذى الذي تعرض لهما مع أصحابه، حتى أن موقعة بدر لم يكن مستعدا لها، ولم يكن ليقاتل إلا بأمر السماء، فقد كان خروج الصحابة من أجل عِير قريش وليس من أجل القتال، لكن الله أراد أمرا وهو أحكم الحاكمين ولا مُعقّب لحكمه، حتى أن حمزة بن عبد المطلب عم النبي قال حين اشتد عليهم الحصار في شعب مكة ومُنعوا الطعام والشراب: لولا أن رسول الله نهى عن القتال لناجزتهم،
لم يرفع النبي سلاحا إلا عند الضرورة القصوى أو بأمر من السماء، وكان ذلك هو الاستثناء، رغم كفر خصومه الواضح بما جاء به، وقد يبرر البعض اجتهادا بحق رسول الله في القتال، لكن ماذا عن أبناء الوطن الواحد والدين الواحد واللغة الواحدة والرحم الواحد؟ هل ينطبق عليهم ما ينطبق على عدو لا شك في كفره وعناده، هل يستويان مثلا؟
يقول تشرشل لا شيء يعلمنا السياسة مثل قراءة التاريخ، وفي التاريخ مواقف وعبر، تُعلّمنا الفهم والتأني وأهمية النظر في عواقب أفعالنا خاصة إذا كانت تلك الأفعال تؤثر في مصير شعوب وأجيال بأكملها، فبعد سقوط الخلافة العثمانية برزت بعض الوجوه والشخصيات المعارضة للنظام العلماني، وكان من أبرزها سعيد بيران وسعيد النورسي وهما كرديان مخضرمان، عاصرا سقوط الخلافة العثمانية وصعود الجمهورية التركية،
ورغم أنهما إسلاميان إلا انهما اختلفا في التعاطي مع كيفية التعامل مع النظام التركي الجديد، فقد جمع سعيد بيران أتباعه وأنصاره وأغلبهم من الأكراد وحشد لانتفاضة وثورة مسلحة، ما دفع الحكومة التركية لإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وهنا حاول سعيد بيران إقناع سعيد النورسي بالانضمام إليه لكنه رفض وأدان هذا الحراك المسلح واعتبره حربا بين المسلمين وشق عصاهم، وحين ذهب إليه وفد سعيد بيران لإقناعه بالانضمام، قال لهم: “إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلا عن تربيتها ملايين الأولياء لذا لا يسل السيف على أبناء الأمة البطلة المضحية للإسلام وأنا أيضا لا أسله عليهم” كان هذا موقفه رغم رفضه لقوانين أتاتورك الجديدة والنظام العلماني، إلا أن هذا الرفض لم يتجاوز تخوم المعارضة الواعية التي تُقدم حفظ دماء المسلمين وتماسكهم على ما سواه.
وبعد مدة من المناوشات المسلحة بين سعيد بيران وأنصاره والدولة التركية، تمكن الجيش التركي من حصارهم وشن هجمات قوية على مناطق تمركزهم إلى أن انتهى الأمر بالقبض على سعيد بيران ومن معه وحكم عليهم بالإعدام شنقا عام 1925. وبقى سعيد النورسي يكافح بالعلم ورسائله النورانية ويربي أجيالا على العلم والعمل به، لم تتركه الدولة التركية أيضا، لكنها عجزت عن اتهامه بشيء واضح فكانوا يقبضون عليه ثم يتركونه،
ومع كل خروج لا يمل النورسي ولا تفتر عزيمته في نشر رسائل النور بين الأتراك في كل مكان يذهب إليه، لم يُشكل التمرد المسلح أى فارق في المشهد التركي آنذاك، بل استغله النظام الجديد كذريعة لتعزيز مبدأ العلمانية دستوريا وقانونيا وحشد الناس وراءه بعد ترويجه أن ما حدث كان مشروع انفصالي كردي، وبالتالي أصدر مجلس العموم في البرلمان التركي في 25 فبراير تعديلًا للمادة 1 من قانون العقوبات عن خيانة الوطن والذي نص على : “منع تكوين المنظمات السياسية على أُسس دينية، وكذلك استخدام الدين في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، واعتبار الأشخاص القائمين بمثل هذه الأعمال أو المنتسبين إلى مثل هذه التنظيمات خونة”.
أما سعيد النورسي فقد أنارت رسائله درب كثير من الأتراك وسط أمواج من الظلمات والأفكار المستوردة، وعمل طلابه بجد وإخلاص رغم العقبات الكثيرة على نشرها في أنحاء الأناضول وإيصالها لكافة فئات الشعب التركي.
وقد تجلى هذا الاجتهاد والصبر على الكفاح وطلب العلم في اتساع رقعة الفئات المتدينة في تركيا، وظهر أثره في الحفاظ على جزء كبير من الكتلة الانتخابية المحافظة، وإذا كانت الأحزاب المحافظة وعلى رأسها العدالة والتنمية تفوز دوما في الانتخابات فإن الفضل يعود إلى أتباع سعيد النورسي وغيرها من الجماعات والطرق الصوفية التي نسجت على منواله، واستطاعت أن تحافظ على الصبغة الإسلامية لدي الشعب التركي ولعبت دورا كبيرا في تعزيز القيم الدينية بين أهالي الأناضول بأدب واعتدال.
لم يلجأ النورسي إلى حمل السلاح في وجه الدولة، بل سار في طريق العلم مع الصبر وتحمل الافتراءات، حتى أنارت رسائله شتى جنبات الأناضول وأخرج جيلا واعيا يدرك أن المكاسب الصلبة لا تأتي إلا بالطرق الناعمة شريطة الصبر والعمل المستمر وإخلاص النية وتجرّدها لله، ومن وراء ذلك حب الوطن والرغبة في إصلاحه والدفاع عنه حتى من أنفسهم،
فقد يدمر الإنسان نفسه ووطنه لسوء فهم أو استعجال نتائج أو رغبة في إصابة حظ دنيوي، وإن كان بالسلاح وسفك الدماء وضياع الوطن، إن بناء الإنسان على حب الوطن ليس ترفا أو نافلة، بل فرض عين وواجب تربوي وإيماني، فما وُجد السلاح إلا للدفاع عن الوطن والذب عنه، وبالعلم والمعرفة يُبنى على أساس متين من التعايش السلمي الناجح، ورحمه الله الأديب الرافعي حين قال: ودولة السيف لا تقوى دعامتها..ما لم تصاحبها دولة الكتبِ.