مقالات وآراء

رفيق عبد السلام يكتب: العرب أمام الحقيقة العارية لـ”إسرائيل الكبرى”

لم يجد نتنياهو حرجاً في تبشير جمهوره الصهيوني بأنه مرتبط روحياً وسياسياً بمشروع “إسرائيل الكبرى”، بل هو منخرط فعلياً في إنفاذه في أرض الواقع، وهو المشروع الذي يمتدّ وفق الرؤية التلمودية، من وادي العريش إلى النهر الكبير، أي نهر الفرات.

بدأت فعلاً الحلقات المتقدّمة لـ”إسرائيل الكبرى”، بتهويد الداخل الفلسطيني والتمدّد في الضفة الغربية وحرب الإبادة المفتوحة في قطاع غزّة، وبموازاة ذلك التوسّع في لبنان وسورية، مع شنّ الحرب ضدّ إيران، والبقية في الطريق.

هذه ليست المرّة الأولى التي يستدعي فيها نتنياهو الصور التوراتية والأخيلة التلمودية، رغم دهريّته، لتمرير مشروعه الكبير، فقد سبق له أن وصف حربه على غزّة بأنها حرب “النور ضدّ الظلام”، وضدّ “العماليق” المذكورين في النصوص التلمودية كنايةً عن الشرّ والكيد لـ”شعب الله المختار”، إذ ورد في العهد القديم أن النبي صموئيل أمر الملك شاؤول الأول بإبادة العماليق تماماً، رجالاً ونساءً وأطفالاً وحتى حيواناتهم.

وقبل أسابيع قليلة، تحدّث نتنياهو في خطاب علني، لم يحظَ بأيّ تعليق أو تعقيب عربي، بأنه ملتزم برؤية زئيف جابوتنسكي (أحد أكثر الآباء المؤسّسين للحركة الصهيونية أهميةً، وصاحب نظرية الجدار الحديدي وتسليط أكبر قدر ممكن من العنف والإكراه ضدّ الفلسطينيين والعرب) لفرض الإذعان عليهم، كما توقّف بنوع من الزَّهو عند الصلة الشخصية الخاصّة التي ربطت والده بجابوتنسكي، وتأثير ذلك في فكره وتوجّهاته العامّة.

وليس سرّاً أن نتنياهو يرى نفسه بصدد استكمال (وتتويج) مشروع الحركة الصهيونية، بل بمثابة جابوتنسكي جديد، الأول مكّن قدمَي إسرائيل في “أرض الميعاد”، والثاني يمدّ يديها ورجليها باتجاه “إسرائيل الكبرى” الموعودة.

لم تجد هذه التصريحات الفاقعة، التي تتهدّد العرب في وجودهم وكيانهم الجمعي، الجواب السياسي الحازم الذي يناسب خطورتها، بل اكتفت دول عربية معنية مباشرة بالتهديد بإصدار بيانات راوحت بين الشجب المغلّظ والمخفّف، وبعضها لم يتجرّأ حتى على نسبة التصريح بشأن “إسرائيل الكبرى” إلى قائله، فتحدّثت “عما أثير من تصريحات في وسائل الإعلام الإسرائيلية”.

لم يعد نتنياهو يجد حرجاً في التعبير عمّا يدور في عقله من تدبير، وما يبيّته من حسابات ونيات بشأن مستقبل المنطقة

الواضح أن نتنياهو لم يعد يجد حرجاً في التعبير عمّا يدور في عقله من تدبير، وما يبيّته من حسابات ونيات بشأن مستقبل المنطقة، بل بات أكثر تصميماً على التقاط ما يراه فرصاً تاريخيةً غير مسبوقة لتنفيذ مشروعه، وبأكبر سرعة ممكنة، خصوصاً بعد التغييرات التي حصلت في سورية، ثمّ ما جرى (ويجري) في غزّة ولبنان، فضلاً عن تفكّك الحواجز السياسية والاقتصادية والنفسية منذ كامب ديفيد (1978)، وما تلاها من اتفاقات وعلاقات دبلوماسية، فقد سقط التابو، وانفتح الفضاء أمام إسرائيل، ولم يبقَ سوى مزيد من المراكمة والتقدّم نحو الأهداف المنشودة.

كما أن هشاشة المحيط العربي، وخضوع الدول العربية للمظلّة الإسرائيلية، إمّا مباشرةً وإما مروراً بالأميركيين، يغريان بمزيد من التمادي لفرض واقع جديد.

نتنياهو بالغ الذرائعية، ولا يفرّط في التقاط اللحظة المناسبة للفتك بطريدته، وتغيير موازين القوى بقوة السلاح، فهو يعتبر وجود ترامب في البيت الأبيض هديةً نزلت عليه من السماء يتحتّم الاستفادة منها في الحدّ الأقصى، بغرض تشكيل موازين قوى جديدة، ولا يهم هنا أن يبيع مشروعه بتهجير الفلسطينيين من غزّة على أنه مشروع ترامب لـ”ريفييرا الشرق الأوسط”، ولا يهم كثيراً أن يصرخ العرب ويضجّ العالم، ما دام الواقع يتغيّر وفق منطق القوي، وهو يدرك جيّداً أن فريق ترامب الموزّع بين واشنطن وعواصم الشرق الأوسط لا يقلّ حرصاً منه على تنفيذ حلم “إسرائيل الكبرى”، وهل هناك فرق أو مسافة فعلاً تميّز جون فانز ومايك هاكابي وستيف ويتكوف عن نتنياهو، فما يفكّر فيه نتنياهو هو ما يعتقده هؤلاء إيماناً وتسليماً إنجيلياً.

كانت أولى الخطوات التي قطعها نتنياهو بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض كسر وقف إطلاق النار واستئناف العدوان على غزّة، ثمّ شنّ حرب استمرّت 12 يوماً ضدّ إيران، والتوسّع في الجنوب السوري بعدما استباح لبنان، وهو فعلاً بصدد كتابة قواعد اشتباك جديدة تقوم على استباحة الأرض والجو متى شاءت القوة الإسرائيلية، ولا معنى هنا لبيانات الأمم المتحدة والمنظّمات الحقوقية ولا اعتراضات الأوروبيين والعرب والآسيويين، فصوت الصواريخ والدبابات أقوى من البيانات.

يرى نتنياهو نفسه مكلّفاً مهمة توراتية ربّانية للتمكين لشعبه المختار وضمان تربّعه على قلب الشرق الأوسط عبر إعادة رسم الحدود والخرائط بقوة الدم والنار، وما العيب في ذلك ما دامت الصهيونية التوراتية تحثّ على هذه المهمّة الجليلة وميزان القوى العسكري والسياسي يسمح بذلك!

فضعف العرب وانشغالهم بقمعهم وحروبهم الداخلية، يجعل منهم لقمةً جاذبةً وسائغةً للأكل ومن دون مقدّمات، ولذلك لا يجد نتنياهو حرجاً في أن يردّد (بمناسبة وبغير مناسبة) أن “ما نفعله في غزّة يُسمع صداه في كلّ الشرق الأوسط”، وإياكِ أعني يا جارتي، أي هي رسائل مبطّنة وغير مبطّنة إلى كلّ عواصم المنطقة من القاهرة الى أنقرة وطهران، ومفادها أننا قادمون إليكم بخيلنا ورجالنا، وليس هناك ما يحول دون تحقيق أهدافنا، وما عليكم إلا الخضوع والإذعان.

وفعلاً بقراءة موضوعية وبعقل استراتيجي بارد: ما الذي يمنع نتنياهو من الإقدام على مغامراته السياسية والعسكرية لتحقيق حلمه التوراتي وأوهامه وتخرّصاته، وأيّ من العواصم العربية تمتلك الإرادة والتصميم للوقوف في وجهه؟

ما يمنع نتنياهو من الإقدام على مغامراته السياسية والعسكرية لتحقيق حلمه التوراتي؟

المصيبة الكبرى أن قواعد اللعبة، أو بالأحرى تكتيكات اللعبة، تغيّرت بصورة شبه كاملة في المنطقة وربّما في العالم كله، والعرب يراوحون مكانهم، وما زالت ساعتهم السياسية معدّلة وفق “السلام العادل والشامل”، و”الأرض مقابل السلام”، ويراهنون على الوسيط “غير النزيه” و”غير العادل” لتحقيق العدل وتقريب وجهات النظر، هذا في وقتٍ انتقل فيه نتنياهو، وحلفاؤه من الصهاينة والإنجيليين، إلى السرعة القصوى، فغيّروا قاموسهم السياسي جملةًُ وتفصيلاً، وما عادوا في حاجة أصلاً إلى مسكّنات إسحاق رابين وشمعون بيريس وإيهود باراك حول حلّ الدولتين والسلام العادل أو غير العادل، وبات همّهم أكبر قدر ممكن ممّا تناله أيديهم وأسلحتهم من غنائم الأرض والثروات والأموال العربية، بدعم أميركي (مُعلَن وغير مُعلَن).

فقاموس إسرائيل السياسي تغيّر جملةً وتفصيلاً، وهي منخرطة فعلياً في إعادة كتابة التاريخ والجغرافيا بالقوة النارية العارية، وما عادت في حاجة إلى بيع مقولات أو أوهام السلام والتعايش وحلّ الدولتَين، بينما بقي العرب يستخدمون المفاهيم والمصطلحات ذاتها، وكأنّهم من زمن غير هذا الزمن، ويتكلّمون لغةً بابليةً قديمةً أو هيلوغريفية لا يفهمها أحد، نتنياهو يقول لهم: الحرب ثمّ الحرب، وهم يجيبونه: السلام ثمّ السلام.

يدرك نتنياهو جيّداً أن الأنظمة العربية أعجز من أن تقف في وجه مشروعه، ولا هي تمتلك الإرادة أصلاً، خاصّة أنه قد ألف سماع الحكام العرب (وأن يسمع منهم) في الغرف المغلقة وغير المغلقة أن إسرائيل هي حليف استراتيجي في مواجهة الخطر الإيراني المشترك أو مغامرات حركة حماس وتهديدات الإسلام السياسي، وقد جاهر بذلك في بداية الحرب، وطلب منهم (الحكّام العرب) أن يلزموا الصمت، لأنه بكلّ بساطة يخوض معركته ضدّ المتطرّفين نيابةً عنهم، وما زاد في غيبوبة العرب وهشاشتهم أكثر، صعود أيديولوجيا ليبرالية مشوّهة، ملخّصها أن القضية الفلسطينية صداع مزمن ينبغي التخلّص منه، والتفرّغ بدلاً من ذلك لبناء الشرق الأوسط الجديد، شرق المشاريع الكُبرى وتقنيات الابتكار والاستثمارات والصفقات.

لم يسبق للعرب، بل لشعوب الشرق عامّةً، أن عاشوا هذه الحالة من العجز والهوان بحجم ما يعيشونه اليوم. مرّت المنطقة بأهوال واجتياحات وغزوات، لكنّها لم تفقد توازنها أو تستباح إلى هذا الحدّ.

كانت في الغالب تتشكّل نواة صلبة من قلب المنطقة أو حتى من أطرافها في أجواء التفتت والصراع لاستعادة قدر من الوحدة والمنعة، ومن ثمّ ردّ العدوان وحماية الثغور، أمّا اليوم فلا شيء غير مشهد الصراع والتفتّت وغياب البوصلة.

تستمرّ حرب الإبادة الجماعية المفتوحة في غزّة منذ نحو سنتَين مع ما رافقها من تقتيل وتجويع وتعطيش وتخريب للعمران ولكلّ مقوّمات الحياة، ومع ذلك وقف النظام الرسمي العربي مشلولاً وعاجزاً ولم يتجرّأ حتى على إدخال قنّينة ماء واحدة.

تذبل أجسام أطفال غزّة ونسائها وعجائزها ويتضوّر الجميع جوعاً وعطشاً، ويكتفي عرب الجوار بتقديم أعذار لعدم دخول المساعدات، هي أقبح من ذنب.

يرى نتنياهو نفسه بصدد استكمال مشروع الحركة الصهيونية، بل بمثابة جابوتنسكي جديد

انعقدت قمم عربية وإسلامية، وصدرت بيانات وقرارات حول رفع الحصار، ولكنّها كانت بمثابة رفع العتب والملامة عن الرؤساء والملوك الكرام، وبقيت حبراً على ورق.

بل أكثر من ذلك، فإنّ معدّلات التبادل التجاري وعقود الطاقة ماضية في طريقها التصاعدي، والعلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال صامدة ولم يتغيّر منها شيء.

مصر وقّعت صفقة غاز بقيمة 35 مليار دولار مع دولة الاحتلال، وبزيادة في الأسعار لا تقلّ عن 40%، إذا احتسبنا زيادات الشهر الماضي، ثمّ ترفيع الأسعار مع توقيع العقد، وقد تباهى نتنياهو بما اعتبره “صفقة القرن”، وقس على ذلك المبادلات والعقود مع دول عربية أخرى في المشرق والمغرب.

وإذا كان العرب غير قادرين حتى على مجرّد إدخال المساعدات الغذائية والطبّية إلى شعب عربي محاصر ومجوّع، فماذا هم فاعلون إذا تحرّكت الدبّابات فوق أراضيهم وحلّقت الطائرات فوق رؤوسهم؟

تتفاوت تفسيرات الدراما العربية الراهنة، وما إذا كان ذلك منتج عجز حقيقي أو تواطؤ متعمّد أم خليط بين هذا وذاك. ولكن تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة: العجز والوهن.

والآن، يواجه العرب الحقيقة الكاشفة والعارية: لا يريد نتنياهو قضم غزّة فحسب، ولا ضمّ ما يسمّيها “يهودا والسامرة” فقط، بل هو منخرط في مهمّة تاريخية وروحية لتنفيذ مشروع “إسرائيل الكبرى”، من النيل إلى الفرات، فقد بات الحريق يقترب من خيام العرب أكثر فأكثر، وما عاد يقتصر على خيام الفلسطينيين المحروقة أصلاً.

المصدر: العربي الجديد

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى