شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكراتي… رسالة مفتوحة للزملاء في قناة الشرق

الزميلات والزملاء الأعزاء،

في يناير القادم، تكمل ثورة الخامس والعشرين من يناير عامها الخامس عشر. خمسة عشر عامًا مرت منذ خرج المصريون يطلبون الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. حاولت السلطة أن تمحو آثار تلك اللحظة، وأن تُشيطن أحلامها، لكن الحقيقة أنها لم تستطع أن تطفئ جذوتها. تبقى يناير رمزًا لا يُختزل في نتائج، بل قيمة خالدة في وعي الأمة، ومسؤوليتنا كإعلاميين أن نُبقي هذه القيمة حيّة ومؤثرة.

قناة الشرق، منذ تأسيسها، التزمت بخط إعلامي واضح: لا صوت واحد يهيمن، ولا أيديولوجيا تبتلع القناة، بل رسالة مهنية جامعة تخاطب المصريين جميعًا، باختلاف مرجعياتهم وأفكارهم وتطلعاتهم. جمهورنا متنوع، وهذا سر قوتنا، واحترام هذا التنوع هو جوهر رسالتنا.

في الأشهر الأخيرة، رصدنا تصاعدًا خطيرًا في بعض الخطابات التي تروّج لليأس من السلمية، وتدعو إلى خيارات عنيفة أو متهورة بحجة أن السلمية لم تعد مجدية. هذا خطاب شديد الخطورة، لأنه يعيد إنتاج ما حذرت منه ثورة يناير نفسها: الاستبداد حين يُبرَّر، والعنف حين يُزيَّن. إن هذا المنهج لا يمثلنا، ولا يعكس رسالتنا الإعلامية، ولا يعبر عن خط قناة الشرق، التي تؤمن أن السلمية ليست تكتيكًا، بل التزام استراتيجي وأخلاقي لا حياد عنه.

إن واجبنا أن نكون الصوت العاقل في زمن الضجيج، أن نواجه خطاب العنف بخطاب الأمل، وأن نؤكد للناس أن التغيير ممكن بالوعي، وبالتدرج، وبالتراكم، لا بالدمار والفوضى. دورنا الإعلامي ليس فقط فضح الاستبداد، بل أيضًا تقديم بديل راشد ومسؤول، يحترم عقول الناس ويزرع فيهم الثقة بأن غياب الحرية هو الخطر الحقيقي، وأن استعادتها لن تتحقق إلا بالمسار السلمي الجامع.

نذكركم أن القناة ليست ساحة لتصفية الحسابات بين تيارات أو جماعات، وليست منبرًا لتضخيم الخلافات القديمة. رسالتنا أن نتجاوز الاصطفافات، وأن نعيد تقديم خطاب جامع، يُعلي قيمة الوطن فوق أي شعار، ويؤكد أن يناير لم تكن ملكًا لحزب أو جماعة، بل حلمًا لكل المصريين.

مسؤولياتنا داخل القناة

  • الالتزام بخطاب إعلامي مهني متزن، يرسّخ صورة القناة كمنبر وطني جامع.
  • الابتعاد عن أي انحيازات أيديولوجية ضيقة أو نزعات فردية.
  • التمسك بخيار السلمية كركيزة لا تقبل المساومة.
  • مخاطبة المصريين جميعًا، بلغة قريبة من همومهم، بعيدة عن الاستعلاء أو التهييج.
  • مواجهة خطاب العنف واليأس بخطاب وطني مسؤول، يزرع الثقة ويؤكد أن التغيير ممكن.

إنسانية الرسالة الإعلامية

الإعلامي الحق ليس خطيبًا يعتلي منبرًا، ولا معلّمًا يفرض وصايته على العقول، بل صاحب رسالة يفتح النوافذ على النور، ويقود الناس إلى التفكير لا التلقين، ويترك لهم حرية أن يروا ويحكموا ويختاروا. هنا تتجلى إنسانية القصة التلفزيونية التي تمنح المذيع خلفية درامية وفكرية، وتضيف لصدقه بُعدًا إنسانيًا يقرّب المسافة بينه وبين جمهوره، فيصبح الحوار مساحة للتفكر لا قاعة للإملاء.

مهمتنا في الشرق ليست أن نكرّس ثقافة السوق، ولا أن نركض وراء سراب “الترند”، ولا أن نحشد نسب مشاهدة جوفاء، بل أن نصنع محتوى ينهض بالعقل والوجدان، يحرك الفكر ويستنهض الضمير. نحن نرفض الابتذال، ونرفض أن تتحول الشاشات إلى سلع رخيصة. مسؤوليتنا أن نعيد للإعلام شرفه، وللمجتمع ثقته، وللحقيقة بريقها، وأن نكون أوفياء للرسالة التي تجعل من الكلمة ضميرًا، ومن الشاشة نافذة أمل لا مرآة زيف.

من هنا يتضح الفرق بين من يتوهم أنه “صانع محتوى” وهو مجرد بائع كلام على قارعة السوق، وبين الإعلامي الذي يعرف أن رسالته أمانة، وأن جمهوره شريك في البحث عن الحقيقة لا مجرد متلقٍ سلبي. دورنا أن نساعد الناس على أن يُشكّلوا قناعاتهم بوعي، لا أن نفرضها عليهم، وأن نُسهم في بعث أخلاق ومعايير وقيم في زمن يوشك أن ينزلق إلى هاوية الإسفاف.

زملائي الأعزاء، إن هذه الرسالة ليست مجرد توجيه مهني، بل عهد أخلاقي نتشاركه جميعًا، كي تبقى “الشرق” منبرًا للوعي لا أداة للتسطيح، ونافذة للحرية لا مرآة للابتذال. إنها أمانة الكلمة، ومسؤولية المهنة، ورسالة إنسانية ووطنية لا يليق بنا أن نفرط فيها.

د. أيمن نور
رئيس مجلس الإدارة
19 أغسطس 2025

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى