
خلق الله الإنسان مكرّمًا بالعقل والضمير والقيم، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].
غير أن هذا التكريم مشروط بوجود العدل، فإذا غاب العدل وحلّ الظلم، اختلّت منظومة القيم الإنسانية، وانحدر الإنسان تدريجيًا إلى مستوى الغرائز الحيوانية.
هذا المقال يسعى إلى تحليل أثر الظلم والتهميش على القيم الفردية والاجتماعية، مع بيان أن الظلم قد يصدر من جهات مختلفة: النظام الحاكم، الجماعات، المؤسسات، الرئيس في العمل، أو حتى الوالدين.
أولًا: مفهوم الظلم وأبعاده
لغةً: هو وضع الشيء في غير موضعه (ابن منظور، لسان العرب).
شرعًا: الاعتداء على حقوق الغير، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
حديثًا: يراه علماء الاجتماع كآلية لإنتاج القهر وفقدان العدالة، وهو أكبر مهدّد للقيم والمعايير الأخلاقية.
ثانيًا: الظلم وأثره النفسي والقيمي
يولّد الشعور بالعجز المكتسب (Seligman, 1975).
يسلب الدافعية ويختزل الإنسان في تلبية حاجاته الأولية.
ينقل الفرد من مرحلة الرسالية إلى مرحلة الغريزية.
قال ابن تيمية: “العدل نظام كل شيء، فإذا فُقد انهدم الوجود” (مجموع الفتاوى).
ثالثًا: مستويات الظلم وأثرها على القيم.
1- ظلم النظام الحاكم.
حين يُمارس الاستبداد السياسي، تتحول الشعوب إلى “قطيع” يبحث عن البقاء.
الاستبداد يقتل القيم العليا مثل الحرية والكرامة.
قال ابن خلدون: “الظلم مؤذن بخراب العمران” (المقدمة).
2- ظلم الجماعة أو التنظيم.
قد تُمارس الجماعة ظلمًا على أفرادها باسم الانضباط أو الولاء.
هذا الظلم أخطر لأنه يهدم ثقة الفرد بالقيم التي حملها.
يؤدي إلى:
النفاق الداخلي.
فقدان الثقة بالمشروع.
انحراف القيم من خدمة الفكرة إلى خدمة الأشخاص.
3- ظلم الرئيس في العمل.
عندما يتحول الرئيس إلى أداة قمعية، يسلب الموظفين حقهم في الإبداع.
ينتج عن ذلك:
فقدان الأمان الوظيفي.
تقوقع الأفراد حول مصالحهم الضيقة.
وهو ما سماه علماء الإدارة “ثقافة الخوف” (Fear Culture).
4- ظلم الوالدين للأبناء.
القرآن نهى عن ذلك: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85].
ظلم الوالدين يتجلى في التسلط، الحرمان العاطفي، أو المقارنة الجائرة.
يؤدي إلى:
تدمير الثقة بالنفس.
انحراف السلوك القيمي.
تقليص العلاقة مع الدين باعتباره مرتبطًا بسلطة قاسية.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يعول» (رواه أبو داود).
رابعًا: من الإنسانية إلى الحيوانية – التحول الخطير.
تتدرج مراحل الانحدار كما يلي:
1- مرحلة القهر: حيث يُدرك الفرد الظلم.
2- مرحلة الانكسار: يفقد الثقة في قيمه ومبادئه.
3- مرحلة الغريزة: يركّز على البقاء والمتعة اللحظية فقط.
وهذا يحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» (رواه البخاري)، أي ظلمات في الدنيا والآخرة.
خامسًا: النتائج الاجتماعية للظلم
الفرد: يتحول من إنسان رسالي إلى كائن غريزي.
الجماعة: تفقد قيمها التربوية وتتحول إلى أداة سلطة.
المجتمع: يسوده قانون الغاب.
الحضارة: تنهار لأنها فقدت العدالة التي تحفظها.
الخاتمة: الظلم بأشكاله كافة– من الحاكم، الجماعة، الرئيس في العمل، أو الوالدين– هو أداة تدمير للقيم الإنسانية.
تأثير الظلم على قيم الإنسان وانحداره إلى مستوى الغرائز الحيوانية!
إنه لا يسلب الحقوق فقط، بل يسلب إنسانية الإنسان، فينحدر إلى مستوى الغرائز. لذلك، كانت الرسالات السماوية كلها قائمة على إقرار العدل، إذ لا بقاء للأمم بدونه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة» (رواه ابن تيمية في مجموع الفتاوى).
قائمة مراجع مقترحة
القرآن الكريم.
صحيح البخاري ومسلم.
ابن تيمية، مجموع الفتاوى.
ابن خلدون، المقدمة.
أرسطو، الأخلاق النيقوماخية.
Pierre Bourdieu, Distinction.
Martin Seligman, Learned Helplessness, 1975.
دراسات في علم الاجتماع السياسي حول الاستداد والتهميش