مقالات وآراء

د. محمد علي حراث يكتب: وفيكم سماعون لهم

ما إن طَفَا على السطح خبر اللقاء الثلاثي الذي جمع وزيرًا سوريًا وآخر إسرائيليًا بوساطة أمريكية ـ تركية ـ عربية، حتى تتالت التغريدات والتشنيعات والتشكيك والقذف والتكفير واللعن.

استعملها بعضهم لإبراز وجهة نظرهم، وتقديم النظام السوري الجديد على أنه صنيعة صهيونية أمريكية.

لكن لا أحد من الغربان المغردين ولا أنصاف المحللين أخبرنا بمحتوى اللقاء أو ما نتج عنه؛ المهم بالنسبة لهم كان اللقاء في حدّ ذاته.

وبنظرة بسيطة إلى الوراء، نجد أن جل هؤلاء ـ إن لم يكن كلهم ـ إما من أنصار إيران، أو من أولئك الذين استكثروا على شباب إدلب أن يكون إسقاط الأسد وهزيمة المشروع الصفوي التوسعي على أيديهم، بعد أن يئس الجميع من ذلك، وبعد أن ظنّ الكل أن حلف إيران قد انتصر ولم يبقَ سوى التعامل البراغماتي مع الأمر الواقع.

إذن القضية تتعلق باللقاء في حد ذاته، لا بمحتواه ومخرجاته.

ولا أدري بأي عقل يتحدث هؤلاء؟ أبعقل الشرع، أم بعقل السياسة، أم بالعقل السليم المجرّد؟

منذ بدء الخليقة قامت الحروب، ومنذ بدء الخليقة تبادل المتحاربون السفراء والمبعوثين، وترسخ لدى البشرية استهجان قتل السفراء أثناء الحروب.

الأكثر من ذلك، لم أعثر في التاريخ ـ وتحديدًا تاريخ الحروب والنزاعات ـ على حالة واحدة لم يكن فيها التفاوض جزءًا من الحرب.

وهل القتال إلا مواصلة للسياسة بأدوات خشنة، كما تعلمنا ذلك في أرقى أكاديميات العلوم السياسية؟

لقد قاد رسول الله، خير البشر، حروبًا بنفسه، وأرسل سرايا مقاتلة بلغت نحو ستين سرية في قرابة عشر سنوات فقط، ومع ذلك فقد كان أغلبها يتضمن عنصر المفاوضات، حتى استقر في فقه المسلمين وجوب أن يسبق التفاوضُ القتالَ.

وهكذا كان التفاوض إما مباشرًا في الأغلبية الساحقة من الحالات، أو غير مباشر في حالات قليلة ومحدودة، لكن الأصل يبقى لقاء الأعداء وجهًا لوجه.

فخيمة صفوان جمعت الجيش العراقي مع الأمريكي، وسلطنة عمان جمعت الإيراني مع الأمريكي، وكامب ديفيد الثانية جمعت فاروق الشرع وزير خارجية حافظ الأسد مع إيهود باراك.

أما عن التفاوض غير المباشر، فهناك اتفاق 1995 الذي تعهد فيه حزب الله لإسرائيل ـ عبر إيران وفرنسا ـ بطرد المقاومة الفلسطينية من لبنان، والتعهد بحصر السلاح بيد الشيعة، ومنع أي مكون آخر من الشعب اللبناني من دخول جنوب لبنان أو الاحتكاك مع العدو الإسرائيلي.

وأخيرًا، الاتفاق الذي أبرمه حزب الله مع إسرائيل، والذي يقضي بامتناع الحزب عن مهاجمة إسرائيل، والالتزام بعدم التواجد جنوب نهر الليطاني، مع احتفاظ إسرائيل بالتواجد في الأجواء اللبنانية وبحق استعمال القوة متى رأت ذلك ضروريًا، والتقدير يرجع لها وحدها.

وهذا ما يُطبَّق حرفيًا منذ نهاية العام الماضي، بما في ذلك ابتعاد حزب الله عن كل المناطق جنوب الليطاني.

إذن، الضجة المفتعلة لا تقوم على مقومات حقيقية، وإنما تأتي في إطار حملة ممنهجة للتشكيك في الإدارة السورية الحالية.
لقد انتزعت إسرائيل التزامات واضحة بإلزام الجميع بحماية حدودها، وهذا ما نصّت عليه الاتفاقية المصرية ـ الإسرائيلية، والاتفاقية الأردنية ـ الإسرائيلية، واتفاقية حزب الله مع إسرائيل، ولم يبقَ إلا الجبهة السورية دون التزام واضح، حيث إن الاتفاقية الوحيدة الملزمة للطرفين كاتفاقية دولية هي اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 الموروثة عن نظام الأسد.

حتى الآن، رفض النظام السوري الجديد الدخول في مفاوضات حول السلام مع إسرائيل، رغم أن ذلك كان شرطًا لرفع العقوبات، ونجحت سوريا الجديدة في الوصول إلى رفع العقوبات دون توقيع معاهدة سلام.
إذن، المهم ليس اللقاء في حد ذاته، وإنما ما يصدر عنه.

وحتى الآن لم تقدم الإدارة السورية الجديدة أي التزام تجاه إسرائيل، غير القبول باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974.

التشنيع في أغلبه يأتي من أنصار “الولي الفقيه” وحزب الله اللبناني.

والأغرب من ذلك أن إيران هي من أسست ميليشيات الهجري الدرزية ومولتها، ولا تزال تمولها، وأن حزب الله اللبناني هو من درب ولا يزال يدرب هذه الميليشيات الدرزية.

إيران وحزب الله لم يدينا ما يفعله الهجري، والسبب بسيط: إنه الولاء الشيعي الجامع.

لكن إيران، كعادتها، نجحت في توظيف أبواقها في الوطن العربي للتشنيع بالإدارة السورية، من أمثال عطوان والمختار الشنقيطي ومن شابههم من أنصارها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى