
لم تكن الليبرالية في مصر أبدًا نسخة كربونية عن نظيرتها الغربية.
فمنذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، تشكلت كخليط فريد يتطلع إلى التحديث والحريات الفردية والديمقراطية السياسية، لكن في إطار يحاول التوفيق بين هذه القيم وبين الهوية العربية الإسلامية والواقع الاجتماعي المصري المحافظ.
كانت الليبرالية المصرية دائمًا مشروعًا نخبويًا إلى حد كبير، يواجه تحدي الانتشار بين جماهير تتوق للعدالة الاجتماعية والهوية الواضحة.
تعود جذور الفكر الليبرالي في مصر إلى عصر النهضة (القرن التاسع عشر وأوائل العشرين) مع رواد مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد ، الذين نادوا بفصل الدين عن السياسة بشكل جزئي، والتعليم، وتحرير المرأة، وتبني قيم المواطنة.
بلغت ذروتها السياسية في دستور 1923 وتجربة الحياة البرلمانية حتى ثورة 1952.
مع صعود التيار القومي ثم الاشتراكي في عهد جمال عبد الناصر، تراجعت الليبرالية بشكل كبير لصالح خطاب يركز على التحرر الوطني من الاستعمار والعدالة الاجتماعية على حساب الحريات السياسية الفردية.
استمر هذا التراجع في عهدي السادات ومبارك، حيث سيطرت الدولة على الحياة السياسية بحزب واحد مهيمن (الحزب الوطني الديمقراطي) وسطوة أجهزتها الأمنية، مما حدّ من مساحة أي تيار معار الليبرالي.
ولكن شهدت السنوات الأخيرة من عهد مبارك، مع ضغوط الإصلاح من الخارج وصعود حركات التغيير من الداخل، ظهور جيل جديد من الأحزاب والتيارات التي حاولت إحياء الفكر الليبرالي.
وفي هذا السياق، برز حزب الغد كأحد أبرز هذه التجارب.
تأسس الحزب رسميًا في أكتوبر 2004 بزعامة المحامي والسياسي الدكتور أيمن نور.
جاء التأسيس بعد انشقاق نور عن حزب الوفد الجديد، حامل لواء الليبرالية التاريخية، ساعيًا لتقديم خطاب ليبرالي أكثر جرأة وحداثة وجاذبية للشباب.
ركز حزب الغد على مجموعة من المبادئ الليبرالية الواضحة:
ومنها فصل الدين عن الدولة بشكل كامل، وضمان حرية الاعتقاد.
وضمان حرية التعبير، وحرية الإعلام، وحرية تكوين الجمعيات.
ودعم اقتصاد السوق والخصخصة، مع وجود ضمانات اجتماعية.
وكذالك التداول السلمي للسلطة، واحترام نتائج صناديق الاقتراع.
يمكن القول إن دور حزب الغد كان “صاعقًا” أكثر من كونه “منظمًا” لانتشار الليبراليه
وكان هناك تحديات جريئه مثل ترشيح د. أيمن نور نفسه في الانتخابات الرئاسية لعام 2005 منافسًا لمبارك تحديًا غير مسبوق، جلب الاهتمام الإعلامي المحلي والدولي الهائل لأفكار الحزب، حتى لو انتهى الأمر بسجن نور.
حوّل الحزب الأنظار نحو التيار الليبرالي كبديل حقيقي لكل من نظام مبارك وتيار الإسلام السياسي الصاعد، وقدم وجهًا شابًا ومثقفًا له.
أثار خطاب الحزب المدني الصريح جدلًا واسعًا، خاصة في مسألة فصل الدين عن الدولة، مما جعل هذه القضية محور نقاش عام، وهو بحد ذاته شكل من أشكال الانتشار، حتى لو كان عبر الرفض أو التأييد.
كما كان مصير معظم المعارضة، واجه حزب الغد وقادته تضييقًا أمنيًا شديدًا، في سجن زعيمه أيمن نور، مما أفقد الحزب زخمه وقوته التنظيمية.
مثّل حزب الغد الثورة بزعامة أيمن نور لحظة صعود سريعة ومثيرة للتيار الليبرالي المصري الحديث، جسدت الشجاعة في مواجهة نظام استبدادي وأطروحة بديلة جذرية للإسلام السياسي.
إلا أن هذه اللحظة كشفت أيضًا عن أزمات التيار الليبرالي العميقة: انقسامه، وطابعه النخبوي، وصعوبة تقديم خطاب يجمع بين الحرية والعدالة في بيئة اجتماعية وسياسية معقدة.
بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، أصبح المشهد السياسي أكثر تعقيدًا.
بينما تمت إضافة بعض المبادئ الليبرالية (خاصة الاقتصادية) إلى سياسات الدولة، فإن المساحة السياسية العامة أصبحت مقيدة لأي معارضة.
يبقى الفكر الليبرالي حاضرًا في النقاشات الثقافية والإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكن تجسيده في قوة سياسية جماهيرية منظورة لا يزال أحد أكبر التحديات التي تواجه ليس فقط الليبراليين في مصر، ولكن كل القوى التي تنشد التغيير